في كل نهاية أسبوع يسعى خطباء المسلمين، جاهدين، أن يجدوا خطبة قصيرة ليوم الجمعة -نظرًا للوقت المرصود للخطبة على المنابر-، وهم -بالطَّبع- ينشدون الأفضل والأدق والأكثر تأثيرًا ووقعا في قلوب وعقول المسلمين الحاضرين للخطبة. ومن هنا، أتيتكم ومعي هذه الخطبة القصيرة، المكتوبة، في رحاب قول الله ﷻ ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وكرمه، ومنع الظلم وحرمه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق، وبسط الرزق، ونهى عن قتل النفس إلا بالحق.
ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ما اعتدى على أحد بلسانه ولا بيده، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، صلى الله عليه وعلى كل داع إلى الإيمان والسلام، ومقتف أثر المصطفى إلى يوم القيام.
الخطبة الأولى
أما بعد.. ف ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ثم اعلموا —رحمني الله وإياكم— أن الإسلام دين محبة وسلام، وإخاء ووئام، نهى عن الظلم وحرمه، وحذر من الاعتداء وجرمه، ولذا كان المؤمن الحق في قاموس الإسلام هو من أمنه الناس وسلم المسلمون من لسانه ويده، إن الإسلام جاء ليحفظ للناس دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا إكراه ولا سلب، ولا قتل ولا نهب، ولا قذف ولا سب، بل تعارف وتآلف، وتعاون وتكاتف، ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
إخوة الإيمان: إن نعمة الحياة من أجل النعم وأعظمها، وأشرف الهبات وأسبغها، امتن الله ﷻ بها على خلقه، وتكرم بها على عباده، ليعمروا هذه الحياة الدنيا بالمحبة والوئام، ويعيشوا فيها بمنهاج العدالة والسلام، فالله ﷻ هو الذي وهب الحياة لهذه النفوس البشرية، وعظم ثواب كل من أسهم في إحيائها، كما عظم عقاب كل من اعتدى عليها بالقتل، فقال: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
إن الاعتداء على النفس بإزهاقها —أيها الإخوة— كبيرة من كبائر الذنوب الموجبة لسخط علام الغيوب، ولو أن رهطا اجتمعوا على قتل مسلم بغير حق لكبهم الله به في النار، مصداق ذلك قول الواحد القهار: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، نعم لقد شدد ديننا في قتل النفس أيما تشديد، وأنزل في القاتل أقسى آيات الوعيد، حتى قال نبينا الكريم ﷺ: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق»، و«لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما»، فإن أصاب دما حراما فقد باء بالخسار، وغضب الواحد القهار.
يقول ابن عمر —رضي الله عنه—: “إن من ورطات الأمور، التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله”، بل إن الإسلام حرم ما هو أقل من ذلك، كرفع السلاح ولو على سبيل المزاح، يقول النبي ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
عباد الله: إذا كان قتل الغير جريمة عظيمة، فإن الانتحار، وهو قتل المرء نفسه، أدهى وأمر، يقول الحق ﷻ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾، فمهما ضاقت بالمرء الدروب، أو نزلت بساحته الخطوب، أو أثقلت كاهله الهموم والكروب؛ فلا يجوز له بحال من الأحوال أن يقتل نفسه، بل عليه أن يسأل ربه الحي القيوم أن يفرج عنه الهموم والغموم.
يقول النبي ﷺ: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا»، وليس له أن يعرض النفس للهلاك كتعاطي الخمور والدخان والمخدرات، أو الإسراف والإفراط في تناول الطعام مما يسبب الكثير من الأمراض المزمنة، أو المجازفة بالنفس في قطع المياه الجارفة، أو التهور في قيادة المركبات، أو إهمال قواعد الأمن والسلامة في استعمال الكهرباء والتقنيات الحديثة، أو غير ذلك مما يؤدي إلى إتلاف النفس وتعريضها للخطر.
فاتقوا الله —عباد الله—، ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البِر الكريم.
هذه أيضًا خطبة الجمعة القادمة — بعنوان: «ادخلوا في السلم كافة» السلام النفسي والمجتمعي والدولي
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وخلانه.
أما بعد، فيا عباد الله: إن ديننا الحنيف أتى لدفع كل الأسباب التي تؤدي إلى انتهاك حرمة الدم، صغيرا كان السبب أم كبيرا، بل إن الإسلام حرم كل ما يثير الأحقاد ويوغر الصدور، ويهيج الضغائن والشرور، حتى لا يكون ذلك سببا لإزهاق الأرواح وقتل النفس، يقول النبي ﷺ: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا —عباد الله— إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا —ويشير إلى صدره ثلاث مرات— بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».
وقد بين ربنا أن الخلاف بين الناس واقع لا محالة، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ولكن على الناس ألا يجعلوا الخلاف يتجاوز ساحة الآراء المختلفة المتقبلة من قبل الأطراف المتباينة؛ لأن تجاوزه يؤدي إلى غضب غير محمود العاقبة، وفي طرق حل الخلاف سعة، صلحا أو تقاضيا أو عفوا، والصلح ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾.
ولا ننسى —عباد الله— الأسباب الطارئة على مجتمعاتنا والتي أدت ببعضهم إلى تقليد ما يفعله الآخرون، تأثرا بما يرونه في مواقع التواصل أو المقاطع المرئية، أو إظهار بطولة خيالية عبر الألعاب الإلكترونية، ويخرجون إلى ساحات المجتمع الآمن فيفعلون ما استنسخته عقولهم عند أول خلاف مع غيرهم أو عند تعرضهم لضغوطات الحياة.
قف —أيها المتأثر— واعلم أنك في مجتمع تحكمه قيم ومبادئ وقوانين تدعوك إلى التعقل والتوازن والبعد عن التهور والطيش، ولتتذكر أن أمامك مسؤولية دنيوية وأخروية.
فاتقوا الله —أيها المؤمنون—، ولنجعل من التقوى منهجا، ومن عباد الرحمن قدوة، فهم ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾، فلنسلك مسلك السلامة، ولنجعل نصب أعيننا ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال في الآية الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الآن يا أكارِم، انتهينا من المُبارَكة لهذا الأسبوع؛ فمَن أراد خطبة قصيرة ليوم الجمعة؛ فسأُوصيه بها. وإن كان الأمر سِعة، فسأُوصي أيضًا بالاطلاع على خطبة: الفتنة أشد من القتل — مكتوبة كاملة. سائِلا الله الكبير الكريم ﷻ أن ينفعنا بالعِلم النَّافع في الدنيا والآخِرة.