عنوان الخطبة طويل! «فضل العشر الأول من ذي الحجة وتعظيم حرمة الأشهر الحُرم بالابتعاد عن الكذب ونشر الإشاعات» حسنًا إنه يعكس ما ستجده –زميلي الخطيب– في هذه الصَّفحة. فما رأيك بأن نبدأ الاطلاع مباشرةً!
عناصر الخطبة
- العشر الأول من ذي الحجة موسم من مواسم الطاعات ونفحة من نفحات رحمة الله على العباد.
- بيان فضائل العشر الأول من ذي الحجة وحرص المسلمين على الاجتهاد بالطاعات.
- خطورة الإشاعات ونقل الأخبار غير الصحيحة، وأثر تناقل الإشاعات على المجتمع الإسلامي.
الخطلة الأولى
الحمد لله..
يقول الله ﷻ في محكم كتابه ﴿والفجر وليال عشر﴾ ويقول النبي ﷺ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا».
وإن من كرم الله ﷻ وفضله على العباد أن جعل لهم مواسم يستكثرون فيها من الأعمال الصالحة ويتسابقون فيها إلى الطاعات، ففي الحديث النبوي الشريف: «افعلوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم»، وقد اختصَّ الله ﷻ بعض الأزمنة بعبادات فُضِّلت فيها على غيرها من الأزمان مثلما اختصَّ يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة وبخطبة الجمعة، فقد اختص العشر الأُوَل من ذي الحجة على كل أيام الدنيا باجتماع أمهات العبادات فيها، قال ابن عباس: “العشر التي أقسم الله بهن ليالي عشر ذي الحجة، والشفع يوم الذبح، والوتر يوم عرفة.
وروى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا يا رسول ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال ﷺ ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»، والعمل الصالح ميدانه واسع في الشريعة الإسلامية، وتشمل جميع وجوه الخير وأعمال البر.
ومن فضائل هذه العشر:
- أولاً: أنها الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره على ما رزق من بهيمة الأنعام قال ﷻ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ﷻ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾: (الأيام المعلومات هي الأيام العشر، والأيام المعدودات هي أيام التشريق)، أي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
- ثانياً: ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن فيها يوم عرفة الذي سنّ النبي ﷺ صيامه لغير الحاج وأما الحاج فلا يصومه لأن عليه أن يتضرع ويجتهد في أداء المناسك والدعاء وعليه أن يتقوى على العبادة فقال ﷺ: «صيام يوم عرفة احتسب على الله ان يكفر ذنوب سنتين». وفي رواية مسلم «يكفر السنة الماضية والباقية».
- ثالثاً: أن الله ﷻ قد أكمل لنبيه ﷺ دين الإسلام في يوم عرفة فنزل قوله ﷻ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
- رابعاً: فيها يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر، قال ﷺ: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر». وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الناس يستقرون فيه بمنى بعد الطواف.
- خامساً: اجتماع أمهات العبادة فيها؛ قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتَّى ذلك في غيرها”.
فطوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح، الذي يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة، ومن ذلك الصيام، فيشرع صيام هذه الأيامِ المباركة، كما صح عن أم سلمة رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ».
وينبغي على المسلم أن يكثر من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار في هذه الأيام، فقد جاء في حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح» وعلى المسلم في هذه الأيام المباركة أن يكثر من أعمال الخير التي تنفع الناس، فأحب الناس إلى الله ﷻ أنفعهم للناس، قال ﷺ: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد –يعني مسجد المدينة– شهراً ».
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عباد الله: إن شهر ذي الحجة من الأشهر الحرم توسط بين شهر ذي القعدة قبله وشهر محرم بعده فهو واسطة العقد وسر ذلك ليتمكن الحجاج من الوصول إلى بيت الله الحرام ومغادرته في الأشهر الحرم، يصلون في ذي القعدة ويغادرون في محرم وهذه فضيلة عظيمة لشهر ذي الحجة عامة والعشر الأول منه خاصة.
قال قتادة: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء”.
فلا بد للمسلم أن يتقي الله ﷻ وأن يحافظ على حرمة هذه الأشهر، وأولى ما يحافظ عليه المسلم، هو حفظ لسانه عن الكذب ونشر الشائعات التي تفتت المجتمع وتشتت شمله، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»
وإن من أعظم الكذب تداول الأخبار دون تمحيص ورويّة لأن ذلك يؤدّي إلى إشعال نار الفتن في المجتمعات، وإثارة حالة من الشك والريبة بين الناس، قال ﷻ: ﴿ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم﴾، ولهذا فإنّ من يُروج الأخبار وهو يعلم مُسبقاً فسادها وعدم صحتها قد ارتكب خيانةً في حق المجتمع، تستوجب مجازاته وعقوبته في الآخرة لأنّ هذا الفعل يؤدّي إلى انعدام الثقة في المجتمع ووقوع الخلاف والتشرّذم وتشتّت في الآراء بين أفراده، ونشر الفُرقة والانقسام يُعَدُّ خطراً داهماً يصيب المجتمع، يتسبّب فيها أصحاب القلوب المريضة، وقد توعدهم الله ﷻ بالعذاب الأليم؛ قال ﷻ: ﴿إنَّ الذين يُحبّون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة﴾.
وقال رسول الله ﷺ: «المسلم من سلِم الناس من لسانه ويده»، وقد بيّن رسول الله ﷺ أنّه بُعِثَ لِيُتمّمَ مكارم الأخلاق فقال: «إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق»، وهذا يدلّ على أنّ تناقل الأخبار دون تثبّت ينشط في ظل انحدار في المبادئ والأخلاق وتَراجع القيم الدينية سيما في هذا العصر حيث التطور الهائل في التكنولوجيا المعاصرة وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي التي لها دورها الكبير في نشر وتناقل الأخبار وبسرعة فائقة وعلى نطاق واسع، قال ﷺ: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».
فليحذر المسلمون من الوقوع في حبائل الكذب التي يبثها أعداء الأمة من خلال نشر الأكاذيب وبث الأراجيف وإشعال الفتن وتأليب أبناء المجتمع الواحد على بعضهم، وقلب الحقائق ونشرها وتزوير الحق بشتى الوسائل فتبلغ بذلك الآفاق في ثوانٍ معدودة، فيقع الضرر، وتحل المصائب والويلات بالأبرياء، وقد رأى النبي ﷺ يوم عُرج به إلى السماء رجلاً يؤتى بكلاليب من حديد فيُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فلما سأل ﷺ عن حاله قيل له: «إنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق».
عباد الله: إنَّ رائدنا في التحقّق والتثبّت في نقل الأخبار قولُه ﷻ: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تُصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾، وهناك قراءة أُخرى ﴿فتثبّتوا﴾، ولو أنَّ الناس عملوا بمقتضى هذه الآية لَتوقّف كل من ينقل خبراً عن ذلك إذا علم أنَّ الناس سيتثبّتون من الخبر ولأقلع عن الكذب.
وقد قال ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت».
إن هذه الأيام المباركة فرصة عظيمة يجب على كل مسلم أن يستفيد منها، وذلك بالتوبة إلى الله ﷻ لنبدأ عامنا الجديد بمنهج جديد لنصبح ربانيين استجابة لأمر ربنا ﷻ.
والحمد لله رب العالمين.
⇐ ما رأيك أيضًا ببعض الخُطَب الأُخرى ذات الصّلة!