عناصر الخطبة
- يوم عرفة يوم نزول قوله ﷻ ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ فهو يوم الإكمال والإتمام والرضا.
- النبي ﷺ خاطب الناس كل الناس في خطبة حجة الوداع ورسم لهم منهاج الحياة السعيدة وحذرهم من سفك الدماء بغير حق مفهوم الأضحية ومشروعيتها وفضلها.
- يوم عرفة يوم فريد يجتمع فيه الحجاج من كل فج عميق على صعيد عرفات متوجهين إلى الله ﷻ بالذكر والدعاء ويشاركهم المسلمون بصيام يوم عرفة لشرفه وفضله.
- يوم عرفة يوم إظهار شعار الوحدة بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأوطانهم ليكونوا صفاً واحداً في تحقيق العبودية لله ﷻ.
- الأضحية رمز للتضحية والعطاء ونيل التقوى لله ﷻ وفِي هذه الشعيرة توزع لحوم الأضاحي التي تبرز التعاون بين المسلمين على البر والتقوى في يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة.
- مفهوم الأضحية ومشروعيتها وفضلها.
- وقت ذبح الأضحية وشروطها وطريقة توزيعها.
الخطبة الأولى
يستقبل المسلمون يوماً عظيماً من أيام الله ﷻ يجددون فيه صلتهم بالله ﷻ، ويزيد ارتباطهم بشعائر دينهم، إنه يوم عرفة الذي يذكرنا بميراث الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، فيه يعظم المؤمنون شعائر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وفداء الله ﷻ لسيدنا إسماعيل عليه السلام، ونعيش مناسك الحجّ على شريعة سيدنا محمد ﷺ، فهو موسم عظيم من مواسم الخير والبركة والفضل الإلهي العميم، قال الله ﷻ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
ومن حقّ هذا اليوم العظيم أنْ نحتفي به كما أمر الله ﷻ، قال سبحانه: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، فيوم عرفة يأتي تتويجاً لموسم مبارك هو الأيام العشر الأول من ذي الحجّة، فهو يوم الحج الأكبر، وهو أعظم أركان هذه العبادة العظيمة وذروة سنامها، وقد قال نبينا ﷺ «الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه» ← رواه النسائي.
حيث يقف الناس على صعيد واحد، ترقبهم الأعين من كل مكان وتشتاق القلوب إلى الوقوف معهم لأداء مناسك الحج، راغبين في رحمة الله ﷻ، ضارعين إليه سبحانه في إجابة دعائهم، سائلين الله في هذا اليوم العظيم أن ينالوا السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
ومن فضائل يوم عرفة أن الله ﷻ أكمل فيه الدين، وأتم نعمته على المؤمنين: قَالَ ﷻ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ ِنعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، قَالَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» ← رواه البخاري.
وفي هذا اليوم العظيم خطب عليه الصلاة والسلام خطبة الوداع التي لخص فيها مجموعة من أحكام الدين الإسلامي ومقاصده الأساسية، فخاطب الصحابة، والأجيال التي ستأتي بعدهم من التابعين، والبشرية جميعها في أنحاء العالم ومن أعظم ما وصّى به النبي ﷺ أمته في هذا اليوم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» ← صحيح مسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب.
لقد اختار النبي ﷺ هذا اليوم العظيم، يوم الحج الأكبر وباجتماع ما يزيد عن مئة ألف صحابي، ليعلنها ﷺ صراحة وعلى مسمع من جميع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب، أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مصونة يحرم الاعتداء عليها، وهذه كانت من آخر وصايا النبي ﷺ.
ويوم عرفة يعكس مظهراً فريداً من مظاهر الوحدة الإسلامية التي حث عليها الإسلام ودعا لها، بل أن الإسلام قد جاء لتحقيق معاني هذه الوحدة فقال الله ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ آل عمران: 103.
وتتجلى أسمى مظاهر هذه الوحدة في هذا الاجتماع المهيب لجميع المسلمين من كافة أقطار الدنيا، حيث يقف المسلمون متراصين صفاً واحداً في لباس واحد، معلنين العبودية لله ﷻ وحده، مرددين بلسان واحد: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”، تاركين وراءهم الدنيا وشهواتها، كلهم عباد لله وحده، إخواناً مجتمعين لغاية واحدة وهي رضى الله ﷻ، فلا غني ولا فقير، ولا أبيض ولا أسود، جميعهم أمام الله ﷻ سواسية كأسنان المشط.
ويوم عرفة هو يوم يتجلى الله ﷻ فيه بالمغفرة والتوبة على العباد، عن بلال بن رباح، أن النبي ﷺ قال له: غداة جمع «يا بلال أسكت الناس» أو «أنصت الناس» ثم قال: «إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم، لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله» ← رواه ابن حبان.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ يوم عرفة: «إن الله عز و جل قد غفر لصالحيكم وشفع صالحيكم في طالحيكم تنزل الرحمة فتعمهم ثم تفرق المغفرة في الأرض فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم فإذا نزلت الرحمة دعا إبليس وجنوده بالويل والثبور» ← رواه الطبراني.
ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنّ رسول الله ﷺ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟» ← رواه الترمذي.
عباد الله: إنّ يوم عرفة يوم عظيم لا ينبغي أنّ يمرّ على مسلم، حاجّاً كان أم غير حاجٍّ، دون أن يستثمره بما يعود عليه من خيري الدنيا والآخرة، فينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يستثمر هذا اليوم بالإكثار من الأعمال الصالحة المتنوعة التي أمر بها الإسلام ورغب فيها، وهي بمقدور المسلم واستطاعته.
فيسنّ للمسلم أنْ يتقرّب إلى الله ﷻ بصيام يوم عرفة إذا كان غير حاجّ في هذا العامّ، قال ﷺ: «صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» ← رواه الترمذي.
وصيام يوم عرفة أمر مندوب ومستحب أمر به النبيّ ﷺ، ويجوز إفراده بالصيام وإن وافق يوم السبت، ذلك أنه صوم بسببٍ خاصّ وهو يوم عرفة، وليس لأنه يوم سبت.
وينبغي للمسلم أن يحرص على الصدق في التوبة، والرجوع إلى الله، والإكثار من الاستغفار، والإكثار من الدعاء مع اليقين بالاستجابة، قال ﷺ: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ← رواه الترمذي.
فليتضرّع المسلم بالدعاء إلى الله ﷻ أنْ يعتقه من النار، وأنْ يتوب عن ما وقع فيه من الذنوب، وأن يسأل الله ﷻ أن يتقبل منه العمل الصالح، وأن يعينه على الاستمرار فيه.
وكذلك فليداوم المسلم على ذكر الله ﷻ، قال الله ﷻ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وخير الذّكر تلاوة القرآن، قال ﷺ: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر حسنات، لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» ← رواه الترمذي.
وليحفظ المسلم الجوارح عن جميع المحرمات، فلا غيبة ولا نميمة ولا كذب ولا زور، ولا جدال بالباطل، ومن ابتلي بمعصيةٍ فليبادر إلى العزم على تركها، فإنّ له من الله معيناً على ذلك ببركة هذه الأيام الفضيلة، قال ﷺ: «هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفر له» ← رواه أحمد.
نسأل الله ﷻ أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأنْ يكتب لنا أجر هذه الأيام المباركة، وأن يكتب الصحة والسلامة لحجاج بيت الله الحرام، وأن يسهل عليهم أداء مناسكهم ويعيدهم إلى أوطانهم سالمين.
⬛️ وهنا أيضًا: خطبة عن الأضحية.. أحكامها وفضلها
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله: إن الأضحية سنة مؤكدة، لقول الله ﷻ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ الكوثر:2، ولما صحَّ عن النبيّ ﷺ «أنه ضحّى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما» ← رواه مسلم.
فنحن عندما نضحي بأنعامنا نتذكر فضل الله ﷻ علينا الذي لم يأمرنا بذبح أولادنا، فنستذكر قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لما استجاب لأمر ربه، فشكر الله ﷻ على هذه النعمة، وتكون الأضحية طعامًا للفقراء والمساكين الذين لا يجدون اللحم إلا في مثل هذا اليوم، فتسود في المجتمع روح الألفة والمحبة والتعاون.
ومن ذبح أضحيته نال الأجر والثّواب من الله عز وجل، وهي سنة مستحبة لمن كان قادراً عليها، ويكره له أن يتركها، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ ﷺ قال: «ما عمل آدميّ من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظافرها، وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفساً» ← رواه الترمذي.
ومما ينبغي مراعاته عند إرادة الأضحية أن يختار من أحسنها لأنه هدي لله ﷻ، فلا تجزئ المريضة ولا العرجاء ولا العجفاء ولا المعيبة بأي عيب ينقص من لحمها لأنها تقدم هدياً لله ﷻ، والله ﷻ لا يقبل إلا طيباً.
وأفضل وقت لذبح الأضحية هو أوّل يوم من أيام العيد من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس، ويمتدّ وقتها إلى ما قبل غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق.
ويجب على المضحي أن يعطي الفقراء والمساكين شيئاً من هذه الأضحية وإن قلّ وله أن يتصرف بالباقي سواءً أكلاً أو إهداءً ولو على الأغنياء ، لقوله ﷻ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
والحمد لله ربّ العالمين..
⬛️ وهديتي الأخيرة لَك: بليغة وقوية.. خطبة عيد الأضحى المبارك مكتوبة