خطبة: فضل يوم عرفة وأحكام الأضحية – مكتوبة

خطبة: فضل يوم عرفة وأحكام الأضحية - مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحمد لله نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته براهينا وحججا، فمن شهد له بالوحدانية وآمن بلقائه واستعد لما أمامه فقد أفلح ونجا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين في الخوف والرجاء، أعظم بها سبيلا وأنعم بها منهجا.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أجمل الناس خلقا، وأحسنهم خلقا، وأعزهم نسبا، وأعرقهم حسبا، وأرغبهم في الآخرة وأزهدهم في الدنيا.

فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

الخطبة الأولى

إن لله تعالى في هذه الأيام نفحات، تُرفع فيها الدرجات، وتُضاعف فيها الحسنات، وتُستجاب بها الدعوات وتقضى فيها الحاجات، ومن أعظم هذه النفحات يوم عرفة التاسع من ذي الحجة. فهو اليوم الذي تتنزل فيه من الله تعالى الرحمات، وقد عظّمه الله تعالى مكاناً وزماناً، يقول الله تعالى في حق عرفة المكان: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ سورة البقرة: 198. وعرفة الزمان: يقول فيه النبي ﷺ: (الحج عرفة) رواه الترمذي.

وعرفة يوم عظيم مشهود من أعظم أيام الدنيا، وقد أقسم الله تعالى به، يقول الله تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ البروج: 3. روى البيهقي بأسانيده عن النبي ﷺ من عدة طرق (وشاهد ومشهود)، قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.

وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة على هذه الأمة، روي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قالَ له: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا. قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} المائدة: 3. قالَ سيدنا عُمَرُ: قدْ عَرَفْنَا ذلكَ اليَومَ، والمَكانَ الذي نَزَلَتْ فيه علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو قَائِمٌ بعَرَفَةَ يَومَ جُمُعَةٍ.) رواه البخاري ومسلم.

وكان لنزول هذه الآية على النبي ﷺ في يوم عرفة دلالة على تمام النعمة بكمال أحكام هذا الدين و ضرورة وحدة صفّ المسلمين وتحقيق معاني الأمة الواحدة ذات الهمّ الواحد والتوجّه الواحد حيث يقف الحجيج على صعيد واحد يلبّون معاً بنداءٍ واحد، يلبسون لباساً واحداً، لا فرق بين غنيّهم وفقيرهم وبين عربيهم وأعجميهم، فيكون فيه الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، ويتجلى الله تعالى في يوم عرفة على عباده بالعتق من النار، ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: (ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ اللهُ فيه عبيدًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ، وأنه لَيدنو، ثم يباهي بهم الملائكةَ فيقول: ما أراد هؤلاءِ ؟ اشهَدوا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم) أخرجه مسلم. قال ابنُ عبدِ البرّ: “وهو يدل على أنهم مغفور لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا بعد التوبة والغفران”، فهو أكثر يوم يعتق الله ﷻ فيه عباده من النار.

هذا وإن فضل هذا اليوم الشريف يشمل كل متقرب متذلل واقف على باب الله وإن لم يكرم بالوقوف على صعيد عرفة يقول ﷺ: (أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله الا الله وحده لا شريك له) اخرجه مالك في الموطأ.

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله ﷺ قال: (صيامُ يومِ عَرفةَ إنّي أحْتسبُ على اللهِ أن يُكفّرَ السنَةَ التي بعدهُ، والسنةَ التي قبلهُ) فصيام هذا اليوم يكون ايماناً واحتساباً، وقد كان أكثر دعاء النبي ﷺ يوم عرفة: (لا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير) أخرجه الترمذي. قال البيهقي رحمه الله: ” هذا وإن كان ثناءً، فإنما سماه دعاءً لأن الثناء مقدمة الدعاء فسماه باسمه”.

عباد الله: ومن العبادات التي تسنّ في يوم النحر (الأضحية) وهي ما يُذبح في عيد الأضحى من الإبل أو البقر أو الغنم – أي الماعز والخراف – تقرُّباً لله تعالى. يقول الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ الكوثر: 2. ويقول الله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الحج: 36. وهي سنة مؤكدة . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ضحى النبي ﷺ بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده (الكريمة)، وسمّى، وكبر، ووضع رجله (الكريمة) على صفاحهما) أخرجه مسلم.

وأما وقت ذبح الأضحية فمن بعد صلاة عيد الأضحى إلى نهاية أيّام التشريق، أي غروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.

ويستحب لمن أراد أن يضحي أن يمتنع عن أخذ شيء من شعره أو أظفاره في الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة ولا يجب عليه ذلك، فتصح الأضحية ممن قص شعره أو أظافره، ولكن فوت عليه أجر السنة.

ولنكثر في هذه الأيام من الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء قائمين وقاعدين، ونرفع أيدينا بالدعاء لله ﷻ في هذا اليوم، مظهرين فيه المسكنة والتواضع والخشوع، فندعو ربنا ﷻ خاشعين متذللين مخبتين ليتقبل الله تعالى الدعاء برفع الكروب وكشف الهموم وجمع صف المسلمين.

اللهم إنا نتوجه اليك في أهل غزة والضفة وأهل فلسطين أن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. وارحم شهداءهم وتقبلهم في الصالحين. وخصَّ برحمتك أولئك الذين قضوا تحت الأنقاض ولم يتمكن أحد من الوصول اليهم أو الصلاة عليهم أو العثور عليهم من حجم الدمار وتطاير الأشلاء. اللهم وأنزل عليهم السكينة والطمأنينة، وشافِ الجرحى والمصابين والمكلومين منهم. وخفف عنهم واربط على قلوبهم يا رب. ونؤكد على قيامنا بواجب أداء صلاة الغائب على شهدائنا في غزة و الضفة . ونذكّر أن الصلاة على الغائب من الشهداء والذين هم تحت الأنقاض بعد الصلاة والاذكار والسنة البعدية للجمعة. سائلين المولى ﷻ أن يتقبلهم في الشهداء ويتغمدهم بالرحمة والمغفرة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ سورة آل عمران: 102.

واعلموا عباد الله ان الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، فيقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ سورة الأحزاب: الآية 56، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: (أنّ من واظبَ عليها يكفى همه ويُغفر ذنبه)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”، وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ سورة الأحزاب: الآية43، وهذا يتطلب التخلق بأخلاقه ﷺ ونقتدي بسنته في البأساء والضراء وحين البأس.

واعلموا أن من دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه، ومن قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.

وفي المصائب والكرب والشدة أوصى الرسول ﷺ بدعاء الكرب وهو: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم) رَوَاه الْبُخَارِيّ. فندعو به في شدائدنا وشدائد أهل غزة وفلسطين، واعلموا أن هذا الدعاء يناجي الله تعالى في اسمه العظيم تذللاً لعظمة الله، والحليم رجاءً لحِلم الله، وربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم يقيناً بأن الأمر كله بيد الله، وأكثروا عند تكالب الأعداء علينا من قول (حسبنا الله ونعم الوكيل)، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ آل عمران: 173،174

والحمد لله ربّ العالمين…

أضف تعليق

error: