هل هناك موضوع خطبة جمعة –في هذه الأيَّام– أهم من هذا الموضوع؟ نعم، بعنوان: فضل ليلة القدر وأحكام زكاة الفطر. هذه خطبة الأسبوع التي أعددناها لكُم اليوم. والتي تتناول أمرين في غاية الأهميَّة في هذه الأيام العشْر المُبارَكة. وهُما: تحرّي ليلة القدر، ومدى فضلها. والثاني هو زكاة الفِطر.
فما من مُسلم يعرف دينه إلا وهاذان الأمران «أو الموضوعان» هُما شغله الشَّاغِل. فما رأيكم أن نبدأ خطبتنا الآن؟!
مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم الوهاب؛ الذي يطعم ولا يطعم، سبحانه مَنّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا. الحمد لله غير مودع، ولا مكافئ، ولا مكفور، ولا مستغنى عنه؛ الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلا، الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. الحمد لله الذي خلقنا من العدم، ورزقنا من النعم، ودفع عنا النقم.
الخطبة الأولى
ليلة القدر عظيمة الشأن عند الله ﷻ أنزل سورة كاملة تتحدث عن عظمة هذه الليلة التي هي أفضل ليالي السنة، قال الله ﷻ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} سورة القدر: 1 – 4.
قال مجاهد –رحمه الله–: [عملها، وصيامها، وقيامها، خير من ألف شهر]، ويقول الله ﷻ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} الدخان: 3.
إن في إنزال القرآن الكريم ليلة القدر أسراراً عظيمة كثيرة، منها أن المسلم كلما قرأ القرآن الكريم يتذكر هذه الليلة التي نزل فيها القرآن العظيم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ومنها أننا نتذكر نزول جبريل عليه السلام على النبي ﷺ بالوحي، وتعظيماً لهذه الليلة ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام مع الملائكة حتى مطلع الفجر، ليقبل العباد على طاعة ربهم ﷻ.
أن هذه الليلة قد اختصت بها أمة النبي ﷺ دون غيرها من الأمم، وهذه الليلة باقية إلى يوم القيامة، والعمل في هذه الليلة خير من ألف شهر، فمن قامها فقد نال الخير كله، ومن حرم خيرها فهو المحروم حقاً، عن أنس بن مالك –رضي الله عنه–، قال: دخل رمضان، فقال رسول الله ﷺ: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم» ← رواه ابن ماجه.
قال السندي رحمه الله: [قوله: (من حرمها) قيل: المراد أنه حرم لطف الله وتوفيقه ومنع من الطاعة فيها والقيام بها، ولعل هذا هو الذي فاته العشاء تلك الليلة أيضا، (إلا محروم) وهو الذي لا حظ له في السعادة].
ولعظم شأنها لم يبينها الله ﷻ كي يسعى الناس في تحصيلها، فلا يستوي المسلم العابد الراكع الساجد الذي يقوم الليل ويقرأ القرآن الكريم، لا يستوي مع غيره من الخاملين والمتقاعسين عن طاعة ربهم ﷻ، قال الله ﷻ: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} الزمر:9.
فليحرص المسلم الموفق على إحياء ليالي العشر كلها والأوتار منها أكثر رجاء إدراك ليلة القدر قال ﷺ: «تَحَرَّوْا ليلة القَدْر في الوِتْرِ من الْعَشْرِ الأوَاخِرِ» ← متفق عليه.
واقتداءً بالنبي ﷺ الذي كان كما قَالَتْ السيدة عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ← صحيح البخاري.
وإحياؤها يكون بالصلاة وقراءة القرآن والدعاء فقد قال ﷺ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ← رواه البخاري.
فيسنُّ إحياؤها بالقرآن وكيف لا يحييها بالقرآن وهي التي أنزل فيها القرآن، قال الله ﷻ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185، والتوجه إلى الله ﷻ بالدعاء وهذا ما اهتمت به سيدتنا عائشة رضي الله ﷻ عنها وهو توجيه النبي ﷺ فعندما سألت رضي الله عنها إذا وافقتها فبماذا تدعو؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: «اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» ← رواه ابن ماجه والترمذي.
وفي هذا الدعاء سر عظيم، إذ العفوُّ هو المتجاوز عن سيئات عباده، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب أيضاً من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فمن عفا عن أخيه عامله ﷻ بعفوه الأعظم.
هذا لمن استطاع قيام ليلة القدر، أما الذي لا يستطيع إحياءها فعليه أن يصلي العشاء في جماعة وأن يصلي الفجر في جماعة لقول النبي ﷺ: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» ← رواه مسلم.
ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله ﷻ: “إن منْ شهد العشاء والصبح في جماعة أخذ بحظه منها”.
ولا ننسى في هذه الليلة المباركة اقصانا، فحريٌ بنا ونحن نقف بين يدي الله ﷻ، أن يكون للمسجد الأقصى المبارك والمرابطين الصامدين نصيب كبير من الدعاء لهم، بأن يثبتهم الله ﷻ ويرزقهم الصبر والمصابرة، وأن ينصرهم على عدوهم، فالأقصى عقيدة ثابتة وراسخة في قلوب الامة الإسلامية.
عباد الله: لا ريب أن قيام ليلة القدر فيه تزكية للروح وغفران الذنوب، وأما النفس الأمارة فيجب تزكيتها بإخراج زكاة الفطر التي فرضها النبي ﷺ على أمته؛ لتجبر هذه الزكاة عن النفس ما أصابها من نقص في شهر الصيام والقيام، وليستغني الفقير عن السؤال في يوم العيد ليصبح المسلمون في هذا اليوم المبارك متساويين في فرحتهم بانتهاء شهر رمضان ودخول شهر شوال أول شهور الحج العظيم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين» ← سنن ابي داود.
فهي طهرة للصائم الكبير والصغير الذكر والأنثى المسافر والمقيم الصحيح والسقيم فقد صدق الله ﷻ حين قال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران:92
واحرص أن تكون هذه الزكاة في يد مستحقيها فإنها لا تسقط عنك إذا قصرت في إعطائها إلى مستحقها وتبقى في ذمتك، وعلى الناس الترفع عن أخذ هذه الصدقة إن لم يكن محتاجاً فلا يحل له أخذها فهي من أكل أموال الناس بالباطل.
وأما مقدارها كما ورد في حديث رسول الله ﷺ فيما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ» ← رواه البخاري.
وغالب قوت بلدنا الأردن هو الخبز المأخوذ من القمح، وعليه فتكون زكاة الفطر صاعاً من قمح، وهو ما يعادل (2.5)كغم، عن كل فرد من المسلمين صغيراً كان أو كبيراً، يخرجها المسلم عن نفسه، وعمن ينفق عليهم، ويصح إخراج زكاة الفطر ابتداءً من أول أيام شهر رمضان وحتى غروب شمس يوم العيد، ويسن إخراجها قبل صلاة العيد حتى يتمكن الفقير من الاستفادة منها لقول النبي ﷺ: «أغنوهم عن السؤال» ← رواه الدارقطني.
والحق أن إخراج القيمة نقداً هو ما ذهب إليه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رحمه الله ﷻ، وهي رواية قوية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ﷻ، وهذه النظرة الفقهية جاءت من النظر إلى مصالح العباد، لأن للأحكام الشرعية مقاصد يجب تنزيلها على واقع الناس، فالحاجة إلى النقد لشراء ما يلزم ملحة، ولذلك ارتأت دائرة الإفتاء العام اصدار فتوى زكاة الفطر نقداً مراعاة لمصلحة الفقير لقضاء حوائجه قبل يوم العيد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.
ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”.
ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين.