طلب أحدهم خطبة عن فضل شهر رجب الحرام. بالطَّبع، فنحن نقف على عتبة أوَّل جمعة في هذا الشَّهر الحرام، وكما يُقال: لكل مقام مقال. فكيف يُمكِن تجاهل موضوع خطبة الجمعة هذا، في ذلك التوقيت؟
لذلك؛ أتيتكم اليوم ومعي هذه المُبارَكة، لتكون خطبة الجمعة القادمة في مساجدكم، ليعرف المسلمون فضائل هذا الشَّهر، فهذا من باب نشر العلم النَّافع على جموع المسلمين في كل مكان.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي جعل لنا في أيام دهرنا نفحات، الذي أكرمنا بخير خلق الله نبيًا وهاديًا ومُرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل؛ وكبره تكبيرا.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه ربه مبشرا ونذيرا، وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، وأنذر الكافرين من النار ساءت مستقرا ومصيرا، فالصلاة والسلام على رسول الله، عدد حبات المطر، وعدد أوراق الشجر، وكلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.
الخطبة الأولى
لقد أظلنا شهرٌ عظيمٌ مبارك من الأشهر الحرم التي اختارها الله ﷻ، لتكونَ مواسم للبرّ والطاعة والعمل الصالح، نتعرض فيها لنفحات الله ﷻ، حيث يصبّ الخير فيها صباً، وتُستنزل فيها الرحمات والبركات، كيف لا وقد خصها الله ﷻ بالذكر في كتابه الكريم من بين سائر الشهور، قال الله ﷻ : ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، ومما لا يخفى أن شهر رجب من الأشهر الحرم التي ذكرها النبي ﷺ بقوله: ” إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ..” متفق عليه.
وقد سُمي شهر رجب بذلك؛ لأن العرب كانت تعظمه قبل الإسلام، فتتوقف فيه القبائل عن الاقتتال فيما بينها، لذلك كانوا يسمونه برجبٍ الأصم، فَتنزع الأسنّة من الرماح وتوضع الأسلحة وتحقن الدماء، وما هذا إلا لحرمته ومكانته المتوارثة عند العرب، فجاء الإسلام وأكد على حرمة هذه الأشهر الحرم، وأنها من شعائر الله ﷻ التي من حقها التعظيم والتبجيل، ومن دلالاتها الصدق والتقوى والخوف من الجليل ، قال الله ﷻ: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج:32.
ولذلك عَزَّزَ الإسلام القيم الفاضلة في المجتمع وبنى عليها ، لا سيما إذا أدى ذلك الى نشر الخير والأمن في المجتمعات، وقد كان من هدي النبي ﷺ تعظيم شهر رجب كما بقية الأشهر الحرم، فدعا الى اغتنامه بما يقرب الى الله ﷻ من الطاعات والاعمال الصالحة؛ فيُستحبُّ للمسلمِ في هذا الشهر وسائر الأشهر الحرم المواظبةُ على ما ثبتت به السنّةُ المطهرة في سائرِ الأيّامِ من نوافلِ الطّاعاتِ؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقاتٍ، وغيرِها من القرباتِ، والإكثار منها مع المحافظةِ على الفرائضِ والواجباتِ، فالتّقرّبُ إلى اللهِ عزّ وجلّ بالطّاعةِ في الشّهرِ الحرامِ أفضلُ وأحبُّ إليه ﷻ من التّعبُّدِ في سائرِ الأيّامِ.
كما ويجب على المسلم في هذا الشهر العظيم أن يبتعد عن ظُلمِ نفسِه، بمعصيتِه لخالقِه، ومخالفة أمره ونهيه، وخاصّة تلك التي يتساهل فيها الناس من صغائرِ الذُّنوبِ؛ ومحقرات المعاصي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :” إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ” رواه الإمام أحمد.
وكذا يجب على المسلم الابتعاد عن ظلم الآخرين بالغيبة والنميمة والقيل والقال، والتعدي على أموال الناس وأعراضهم ودمائهم، قال الله ﷻ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهَ﴾ البقرة:217، ليكون بذلك شهر رجب الأغرّ فرصة لضبط النفس وتدريبها على الالتزام بخصال الخير، والابتعاد عن خصال الشر، استجابةً لقوله الله ﷻ: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم﴾ التوبة:36.
قال ابنُ عبّاسٍ –رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية – كما روى الطّبريّ في تفسيره: “في كلِّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهرٍ فجعلهنَّ حراماً، وعَظّم حُرُماتِهنَّ، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم”.
بَيِّضْ صَحيِفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبِ
بِصَالِحِ الْعَمَلِ الُمنْجِي مِنَ اللَّهَبِ
شَهْـرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمِ
إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فِيـهِ لَمْ يَـخِبِ
طُـوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيـهِ لَهُ عَمَلٌ
فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالرِّيَـبِ
وفي شهر رجب وقعت العديد من الأحداث التاريخية بدءًا من حادثة الاسراء والمعراج الشريفين مروراً بغزوة تبوك ، التي منَّ الله ﷻ بها بنصره المؤزر المبين لنبيه ﷺ بغير قتال، قال ﷺ: «نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» رواه البخاري ومسلم.
وفي شهر رجب أيضاً لبى نداء الأقصى القائد المسلم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ﷻ عام 583 هجري، ففتحه الله ﷻ على يديه، وحرره بعد احتلالٍ دام أكثر من ثمانين عاماً.
فما أحوجنا اليوم والاقصى المبارك أسير في أيدي الغاصبين والمحتلين، أن نتفاءل بهذا الشهر الحرام بعودة المسجد الأقصى المبارك الى حياض الإسلام والمسلمين، فعلاقتنا بالمسجد الأقصى علاقة عقدية يتوحدُ جميع المسلمين عليها، وهو قضية عادلة يوافقنا عليها جميع الشرفاء في العالم.
وهنا أيضًا يا أفاضِل: خطبة عن شهر رجب.. مكتوبة جاهزة، مشكولة الآيات وقوية المفردات
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.
إن شهر رجب يعدُّ موسماً عظيماً من مواسم الخيرات والبركات، تتجلى فيه الفضائل والكرامات لأهل الإيمان، المقبلين على طاعة، المتعرضين لنفحات الخير والرحمة والمغفرة، يقول النبي ﷺ: «الْتَمِسُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» معجم الطبراني.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: «خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» رواه الترمذي، وقال ﷺ: «من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي, وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح» رواه أبو داود.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..