خطبة: فضل التكبير والعشر من ذي الحجة – مكتوبة كاملة

خطبة: فضل التكبير والعشر من ذي الحجة - مكتوبة كاملة

مقدمة الخطبة

الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، أحمده على كل حال تفرد بالكبرياء والجلال، والعظمة والجمال إليه المرجع والمآل، سبحانه عظيم النكال، شديد المحال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فقد خلقكم لتوحيده، وأمركم بذكره وتمجيده: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون).

الخطبة الأولى

إخواني في الله… التكبير هو التعظيم لله ﷻ المعبود بحق والإجلال له ﷻ، والتكبير: الله أكبر الله أكبر، إيمان على إيمان. عن جابر رضي الله عنه: (كنَّا إذا سافَرْنا مع رسولِ اللهِ ﷺ إذا صَعِدْنا كَبَّرْنا، وإذا هَبَطْنا سَبَّحْنا) رواه البخاري. فشرع لمن تلبس بالارتفاع أن يذكر كبرياء الله ﷻ، وأنه أكبر من كل شيء، فيكبره ليشكر له ذلك، فيزيده من فضله، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق فيشرع فيه التسبيح؛ لأنه من أسباب الفرج.

والحق أن التكبير يدخل في مقام الإسلام ظاهراً مع رفع الأذان وإقامة الصلاة، ويدخل في مقام الإيمان باطناً، لأن في التكبير سرّاً يستقر بالقلوب التي تتعلق بعلاّم الغيوب، ويدخل في مقام الإحسان مشاهدة قلبية، لأن التكبير عبادة يتعبَّدُ العبدُ بها ربه ﷻ، فيحقق بالتكبير معنى (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

ولا ريب أن عبادة ذكر الله ﷻ بالتكبير لها فضل عظيم، فإن العبد إذا قال: (الله أكبر الله أكبر) صَغُرتْ الدنيا عنده، وتعلق قلبه بربه العظيم الذي يراه حين يقوم وتقلبه في الساجدين.

إن التكبير كلمة تحمل في مبناها ومعناه كل معاني العظمة لله ﷻ، ولا ينازعه فيها أحد من خلقه، ففي الحديث القدسي: (قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ) أخرجه ابو داود.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الشهادتين (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله) هما مفتاح الإسلام، فمن نطق بهما فقد دخل في دين الإسلام، لتأتي الصلاة الركن الثاني العملي من أركان الإسلام الخمسة، ليكون الأذان مستهلاً بالتكبير (الله أكبر الله اكبر).

إن فضل التكبير عظيم، وعند سماعه تفر الشياطين، وهو ذكر تعظيم لله ﷻ تنطق به ألسنة الخلق في كل لحظة، ليظل المسلم عبداً لربه، شديداً على عدوه من شياطين الإنس والجن.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (ما مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) رواه أحمد. قال البخاري رحمه الله: (كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناسُ بتكبيرهما) رواه البخاري. وذكر الله ﷻ منزلة من منازل هذه الدار يتزود منها الأتقياء زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، به تستجلب النعم، وبمثله تدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح.

فما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم أثره في حياتهم، لذلك لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال يقول ربنا ﷻ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ النساء: 103. وبعد أداء صلاة الجمعة يوصينا ربنا ﷻ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الجمعة: 10.

وفي مناسك الحج يأتي الأمر بذكر الله في ثنايا أعمال الحجيج: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ البقرة: 200. وفي الجهاد في سبيل الله وحال ملاقاة الأعداء يأمر الله ﷻ بالثبات والإكثار من ذكره ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الأنفال: 45.

وفي هذه الأيام نعيش العشر الأوائل من ذي الحجة، تبدأ هذه الليالي بليلة غرة شهر ذي الحجة، وهذه الأيام أرفع الأيام قدراً، وهي موسم عظيم من مواسم الطاعات. يقول الله ﷻ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ الحج: 28.يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين.

ومن فضل هذه الأيام المباركة أن العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله ﷻ مما سواها من الأيام، ولأهميتها أقسم الله ﷻ بها في قوله ﷻ: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ 1،2: الفجر. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم هي عشر ذي الحجة. وهي أفضل أيام الدنيا كما جاء ذلك عن النبي ﷺ حيث قال: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) رواه البزار وابن حبان.

وعن عبد الله بن عباس رضي عنه. أن الرسول ﷺ قال في فضل هذه الايام: (ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ) أخرجه البخاري.

قال المحدث الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله ﷻ: “وفيه التصريح بأن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا، إلاّ عشر رمضان… وذهب بعض الحفّاظ إلى تفضيل هذه العشر حتى على العشر الأخيرة من رمضان.. والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادات فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها”

إن المسلمين في هذه الأيام صنفان، الحجاج الذين استطاعوا إلى الحج سبيلاً، وهم يؤدون مناسك الحج في أعظم نسك، هذا الصنف الأول.

وأما الصنف الثاني فهم الذين لم يتيسر لهم الحج من المسلمين في سائر البلدان. فهؤلاء عليهم بخيرَ الأعمال وأزكاها عند اللهِ وهو ذكر الله فعن معاذِ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله: (أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم ؟ !، قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ) أخرجه الترمذي. وكفى بذكرِ الله شَرفًا واستجلاباً واستمطاراً لرحمة الله ونصره وتوفيقه، فإذا تعالت الحناجرُ بالتكبير فإن الأرواح تطير إلى خالقها، والجوارح تستقيم في سلوكها؛ فيتحقق نصر المكبرين على الكافرين بالله العظيم من الإنس والجن أجمعين.

اللهم إنا نتوجه اليك في أهل غزة والضفة وأهل فلسطين أن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. وارحم شهداءهم وتقبلهم في الصالحين. وخصَّ برحمتك أولئك الذين قضوا تحت الأنقاض ولم يتمكن أحد من الوصول اليهم أو الصلاة عليهم أو العثور عليهم من حجم الدمار وتطاير الأشلاء. اللهم وأنزل عليهم السكينة والطمأنينة، وشافِ الجرحى والمصابين والمكلومين منهم. وخفف عنهم واربط على قلوبهم يا رب. ونؤكد على قيامنا بواجب أداء صلاة الغائب على شهدائنا في غزة و الضفة. ونذكّر أن الصلاة على الغائب من الشهداء والذين هم تحت الأنقاض بعد الصلاة والاذكار والسنة البعدية للجمعة. سائلين المولى ﷻ أن يتقبلهم في الشهداء ويتغمدهم بالرحمة والمغفرة.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ سورة آل عمران: 102.

واعلموا عباد الله ان الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، فيقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ سورة الأحزاب: الآية 56، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: (أنّ من واظبَ عليها يكفى همه ويُغفر ذنبه)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”، وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، يقول الله ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ سورة الأحزاب: الآية 43، وهذا يتطلب التخلق بأخلاقه ﷺ ونقتدي بسنته في البأساء والضراء وحين البأس.

واعلموا أن من دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه، ومن قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.

وفي المصائب والكرب والشدة أوصى الرسول ﷺ بدعاء الكرب وهو: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم) رَوَاه الْبُخَارِيّ. فندعو به في شدائدنا وشدائد أهل غزة وفلسطين، واعلموا أن هذا الدعاء يناجي الله ﷻ في اسمه العظيم تذللاً لعظمة الله، والحليم رجاءً لحِلم الله، وربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم يقيناً بأن الأمر كله بيد الله، وأكثروا عند تكالب الأعداء علينا من قول (حسبنا الله ونعم الوكيل)، لأنّ الله ﷻ يقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ آل عمران: 173،174

والحمد لله ربّ العالمين…

أضف تعليق

error: