عناصر الخطبة
- أمرنا ربُّنا ﷻ بالعمل الصالح، فكل عمل فيه طاعة لله ﷻ فهو عمل صالح ينفع العبد في الدنيا والآخرة.
- الباقيات الصالحات كلمتان جامعتان، تحملان في مضامينهما الخير العظيم الدائم الذي لا ينقطع نفعه في الدارين.
- العباد الراغبون بالباقيات الصالحات الحريصون عليها هم الذين وصفهم الله ﷻ في قوله: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر…)
- الحفاظ على دعاء سيدنا يونس عليه السلام: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) في كل الساعات لما فيه من نفع عظيم يناله المسلم إذا أيقن به كيقين سيدنا يونس عليه السلام.
الخطبة الأولى
أمرنا ربُّنا ﷻ بالعمل الصالح (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) التوبة: 105، فكل عمل فيه طاعة لله ﷻ فهو عمل صالح ينفع العبد في الدنيا والآخرة إذا اقترن عمله بالنية الصادقة؛ فإن الله ﷻ خلق الجن والإنس لعبادته، قال ﷻ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات: 56–58.
فإذا علم المُسلم هذه الحقيقة، كان لا بد له أن يعلم أنه محاسب على عمله أمام الله ﷻ، فإن كان عملاً صالحاً فقد فاز ونجا، وإن كان غير ذلك فقد خاب وخسر، وهذه الأعمال الصالحة النافعة، هي التي سماها الله ﷻ بالباقيات الصالحات، لأنها تبقى لصاحبها بعد موته، وتنفعه يوم الحساب عند ربّه، يقول الله ﷻ: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) الكهف: 46.
والحق أن الباقيات الصالحات كلمتان جامعتان، تحملان في مضامينهما الخير العظيم الدائم الذي لا ينقطع نفعه في الدارين، فحريٌّ بالعبد الصالح المحافظة على الباقيات الصالحات من أذكار مباركات طيبات (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر) في كل لحظة من لحظات حياته قبل مماته، فسيجد ثوابها عند ربه ﷻ.
ولا ريب أن “الباقيات الصالحات” التي تبقى ذخراً لصاحبها بعد موته، تكون بإقبال المُسلم على الله ﷻ، وحضور قلبه عند ذكر ربّه، وكل عمل فيه صلاح وعبادة لله ﷻ، وكل بذلٍ لخير ومعروف بين الناس، وكل قُربة يتقرب بها الإنسان إلى الله ﷻ، فإن هذه الأعمال هي التي تبقى ذخراً لصاحبها يوم القيامة، قال ﷻ: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مريم:76، لذلك كان من دعاء النبي ﷺ: «وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا» ← سنن الترمذي.
ومن معاني الحديث: أي اجعل ما قدمته هذه الأعضاء من أعمال صالحة هي التي ترث حياة الإنسان وذكره بعد موته، بتركها أثراً صالحاً بين الناس، وخيراً يعمهم وهدايةً ترشدهم، ومثالاً يُقتدى به:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
وقد حذرنا الله ﷻ من مجامع الفتن والشهوات، ودلّنا سبحانه على جوامع الباقيات الصالحات، وأصول الخير والبركات، فقدّم لنا الله ﷻ ستّ مظاهر دنيوية تحجب المسلم عن ذكر ربّه ﷻ لما فيها من الشهوات والفتن، التي يتعلق بها قلب الإنسان فقال ﷻ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) آل عمران: 14، ثم يذكر ﷻ ستَّ وسائل لعلاج هذه الشهوات، وما ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، فقال سبحانه: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) آل عمران: 15–17.
فذكر ﷻ في هذه الآية الكريمة أخلاق المؤمنين المفلحين، وأعمالهم التي توصلهم إلى جنات النعيم، وهي تقوى الله ﷻ وكثرة التسبيح والاستغفار، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «خُذُوا جُنَّتَكمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ؛ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَومَ القِيامَةِ مُقَدِّمَاتٍ، وَمُعَقِّبَاتٍ، وَمُجَنِّبَاتٍ، وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» ← رواه الطبراني.
كما ذكر سبحانه أن من الباقيات الصالحات المحافظة على الصلوات، وأن يكون الإنسان مع الصابرين والصادقين، والمتصدقين، وقد بين لنا النبي ﷺ أن هذه الأعمال هي جوامع الخيرات التي تبقى لصاحبها بعد موته، فقال ﷺ: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن –أو تملأ– ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان –أي برهان يوم القيامة على صدق صاحبها– والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها» ← صحيح مسلم.
⬛️ أيضًا؛ هنا: خطبة عن الباقيات الصالحات.. جاهزة، مكتوبة، منسقة ومشكولة الآيات
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.
العباد الراغبون بالباقيات الصالحات الحريصون عليها هم الذين وصفهم الله ﷻ في قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة التوبة: 112، فلنتجمل بهذه الصفات المباركات أو بما نستطيع لقوله ﷻ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة التغابن: 16. ويقول النبي ﷺ: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللهِ إِلَّا أَعْطَاكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ» ← مسند الإمام أحمد، حتى إذا امتلأ قلبه بالأنوار أصبح عبداً ربّانياً يحبه الله ﷻ ويُحبب عباده فيه.
يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري: “فلا تجزع بالوحشة إذا اعترتك، ولا من الضيق من الخلق، فلعل هذا علامة نظر الله إليك، وإرادته أن يبدل ما اعتدت عليه من الأنس بالفانيات إلى الأنس بالباقيات الصالحات”.
وهذا الأُنس من الله ﷻ يبقى مع المؤمن في حياته وبعد مماته، فيقيه من وحشة القبر وسوء العاقبة والمنقلب، ويكون له نجاة عند الله ﷻ، وحرزاً من عذاب النار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ» ← المستدرك على الصحيحين.
ولنحافظ على دعاء سيدنا يونس عليه السلام: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) في كل الساعات لما فيه من نفع عظيم يناله المسلم إذا أيقن به كيقين سيدنا يونس عليه السلام.
والحمد لله ربّ العالمين..