مقدمة الخطبة
الحمد لله ربّ العالمين، العزيز الحكيم، الناصر لعباده المؤمنين، القائل في محكم التنزيل: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نستمسك بها في وقت الشدائد، ونتزوّد بها يوم الحشر والميعاد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قائد الغرّ الميامين، ومعلّم الأجيال معاني التضحية واليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على هديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد، عباد الله، فحديثنا اليوم عن يومٍ من أيام الإسلام الخالدات، يومٍ اهتزّت فيه قلوب المؤمنين بالعزيمة وارتجفت له قلوب الأعداء بالمهابة والرهبة، إنه يوم مؤتة، يوم البطولة والفداء، يومٌ سجّله التاريخ في صفحات النصر بدماء الشهداء والأبطال، يوم خرج فيه ثلاثة آلاف من جنود الله لملاقاة عشرات الآلاف من الأعداء، فكانوا صورةً مشرقةً للإيمان والصمود، مضوا بثبات وإخلاص، وقدّموا أرواحهم في سبيل الله، فخلّد الله ذكرهم في الدنيا والآخرة، وجعلهم قدوةً لكل من يسعى للعزة والرفعة والكرامة.
أيها المؤمنون، غزوة مؤتة ليست مجرّد حدثٍ في التاريخ، بل هي رمز للبطولة وعنوان للعزّة الإسلامية، فيها تتجلى معاني الوفاء لله، والثبات على الحق، والتضحية بالغالي والنفيس. فمنهم من ارتقى شهيدًا، ومنهم من عاش ليكون شاهدًا على النصر بفضل الله.
الخطبة الأولى
عباد الله: في شهر جمادى الأولى من العام الثامن الهجري وقعت غزوة مؤتة والتي تعد نقطة فاصلة في التاريخ الإسلامي. إذ هي أول غزوة يخوضها المسلمون خارج حدود الجزيرة العربية، فكانت بداية الفتح الذي رفع الظلم عن المظلومين. وقد نال هذا البلد المبارك شرف السبق للفتوحات الإسلامية.
لقد جاءت غزوة مؤته انتصاراً لعزّة المُسلم وكرامته وردعا للظالم عن ظلمه ودفاعا عن المظلومين، إذ جاءت هذه الغزوة بعد استشهاد سيدنا الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه، حيث قتله عامل الروم شرحبيل بن عمرو الغساني ظلماً وعدواناً، لأنه رسول رسول الله ﷺ، فكانت غزوة مؤتة تحقيقاً للعدل وتأديباً وعقاباً للظالمين.
لقد جهّز النبي ﷺ جيشاً قوامه ثلاثة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، وأمر عليهم ثلاثة قادة عظام: هم على التوالي: زيد بن حارثة.ثم جعفر بن أبي طالب. ثم عبد الله بن رواحة.رضي الله عنهم، فإذا استشهد الأول تسلم الراية الثاني، فإذا استشهد الثاني تسلم الراية الثالث، فإن قتلوا فليتخير المسلمون من بينهم رجلاً.
خرج هذا الجيش المبارك من المدينة المنورة إلى مؤتة جنوب الأردن، ودارت رحى هذه المعركة العظيمة بين الجيشين بين كرٍّ وفرٍّ، وظهرت بطولات الصحابة رضي الله عنهم، بطولات تكتب بالتبر لا بالحبر، بطولات تحمل رسائل عظمة الإسلام إلى العالم، إنها فئة مؤمنة قطعت الفيافي والقفار من الجزيرة جاءت بإيمانها العظيم لتقاتل جيش الروم الذي كان مئتي ألف، فصمد الصحابة رضي الله عنهم أمام العدو كالجبال الرواسي.
استشهد القادة الثلاثة فاستلم الراية سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأنقذ جيش المسلمين بخطة عسكرية فريدة، وعاد بمن بقي من الجيش إلى مدينة رسول الله ﷺ، عاد بالجيش سالماً غانماً بعد أن حقق المراد وخاض أول معركة خارج الجزيرة العربية.
وقد نعى سيدنا رسول الله ﷺ الشهداء الثلاثة وهو في مسجده ﷺ. قال رسول الله ﷺ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حتَّى أخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم» صحيح البخاري.
ومما يجب أن يعلمه المسلمون أن صحابة رسول الله ﷺ في معركة مؤتة كانوا فئة قليلة صابرة محتسبة لم يقيموا لحشود الروم الهائلة وزناً، ولم ترتعد فرائصهم. يقول الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 249]. وهذا الموقف الشجاع فيه دروس وعبر لأمة الإسلام في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، ولتطمئن القلوب بأن النصر من عند الله وحده يقول الله تعالى: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال: 10].
لقد حققت معركة مؤتة أهدافها حين انتصر المؤمنون على أنفسهم وأدبوا الظالمين، وأثبتوا بالإرادة والعزيمة حسن توكلهم وثقتهم بالله، فكانت لهم البشارة بفتح بلاد الشام، حين استقبلهم الرسول ﷺ قائلا لهم: (بل الكرار ان شاء الله)، ليعود المسلمون بعد ذلك بسبع سنوات بجيوش يقودها سيف الله المسلول سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه ليكون الفتح العظيم في معركة اليرموك، ولنحيا مع تلك البشائر بل الكرار ان شاء الله تعالى.
ومن الدروس المستفادة من هذه الغزوة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يؤذوا النساء والأطفال في أرض المعركة، كما أنهم لم يقطعوا الشجر ولا غيره اقتداءً واستجابة لرسول الله ﷺ، فقد كان من هديه ﷺ إذا بعث سرية أن يقول لهم: «… اغْزُوا وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا» سنن أبي داود، وأوصاهم قائلاً كذلك: «ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء» سنن البيهقي.
ومن الدروس المستفادة التي يجب أن يفقهها المسلمون من غزوة مؤتة أن يوقنوا حق اليقين بأن الله تعالى الذي نصر الصحابة رضي الله عنهم في الغزوات والسرايا هو سبحانه القادر على أن ينصر أمة الإسلام على أعدائها المتربصين بها. يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 21]
فعلينا في هذه الأيام أن نستذكر مثل هذه الغزوات. لنأخذ منها الدروس والعبر. ونستلهم منها الثقة بوعد الله تعالى ونصره لأمته. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ سورة الصافات: 171، 173.
هنا أيضًا ⇐ خطبة: معركة مؤتة – دروس وعبر
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهَّار، والصلاة والسلام على نبيه المُختار. وبعد… أيها المؤمنون، غزوة مؤتة درس خالد في الوفاء والشجاعة، ومثال حيّ في التضحية والإقدام، تروي لنا كيف واجه المسلمون جيشًا جرارًا بعزيمة المؤمنين، وقلوب ثابتة واثقة بنصر الله المبين. فيها مضى الشهداء العظام، يتقدمهم زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، فصاروا رموزًا للبطولة والإخلاص، وأمثلة للوفاء لله ولدينه.
فيا أمة الإسلام، تلك المعارك الخالدة لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل هي نور يضيء لنا الطريق، ويُرينا أن النصر الحقيقي ليس بعدد الجيوش، بل بثبات القلوب ويقين النفوس. فلنجعل من غزوة مؤتة مدرسة نستلهم منها معاني العزيمة والتضحية، ونمضي على خطا أبطالها متمسكين بكتاب الله وسنة نبيه الكريم ﷺ.
نسأل الله أن يرزقنا صدق الإيمان، وأن يثبتنا على الحق في كل زمان ومكان، وأن يجعلنا من الذين يستمسكون بالهدي القويم، وينتصرون للحق المبين، إنه نعم المولى ونعم النصير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله ربّ العالمين…