مُنذ الصّغر وهذه الغزوة محفورة في الأذهان، فما أن يأتي موعدها حتى نجِد أئمة الجوامع يتحدَّثون عن غزوة بدر، وما كان فيها من دروس وعبر. وأساتذة المدارس والجامعات يقومون بدورهم، والمناهج الدراسية تفعل ذلك، ودروس العلم.. وو.. كيف لا وهي أحد أهم النقاط المحورية في التاريخ الإسلامي عامَّة!
الآن، هنا خطبة الجمعة –مكتوبة– عن هذه الغزوة الكبيرة، والتي شكَّلت خطًا فاصلا بين ما كان قبلها وما جاء بعدها.
عناصر الخطبة
- غزوة بدر الكبرى تحول تاريخي في مسيرة الدعوة الإسلامية.
- شهر رمضان المبارك شهر البطولات والتضحيات والانتصارات.
- تكريس مبدأ الشورى من الدروس والعبر المستفادة من غزوة بدر الكبرى.
- التخطيط السليم، والإعداد الجيد من أهم أسباب النجاح، بعد توفيق الله ﷻ.
- قلة الإمكانيات لا تقف عائقاً أمام تحقيق الإنجازات.
- تأييد الله ﷻ لعباده المؤمنين الصادقين في نصرة دينه.
الخطبة الأولى
الحمد لله..
وبعْد؛ إن الإسلام العظيم الذي ارتضاه الله ﷻ لنا ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وصل إلينا بتضحيات أولئك الأوائل، الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل دينهم وأوطانهم لإحقاق الحق وإخراج الناس من الظلمات النور، ومن هذه التضحيات العظيمة التي بذلها جيل التأسيس –غزوة بدر الكبرى– حيث كانت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، من السنة الثانية للهجرة.
شاءت إرادة الله ﷻ أن تقع هذه المعركة في أول رمضان يصومه النبي ﷺ وأصحابه من السنة الثانية للهجرة، مما يدل على أن هذا الشهر لم يكن في تاريخنا شهر راحة ودعة، وإنما هو شهر جد واجتهاد وشهر جهاد وعمل ترتقي فيه الأمة وتحقق ما تصبوا إليه من إنجازات وإعادة حقوق مغتصبة، فهو شهر جهاد وبطولات ونصر وصبر وتضحيات، وفي هذا رسالة إلى المسلمين اليوم ببيان واقع هذا الشهر في تاريخهم وهذه هي سيرة حياة النبي ﷺ وأصحابه.
يوم بدر، أو قُل معركة بدر، أو يوم الفرقان، كما سماه الله ﷻ في كتابه، يوم مليء بالدروس والعبر والعظات، كل موقف فيه يعد مدرسة نستلهم منها معاني الصبر، والشجاعة، والتضحية، ونلتمس منها طريق النصر والتمكين.
يأمر النبي ﷺ أصحابه قائلا لهم: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها». فهي فرصة ذهبية للمسلمين، لتعويض ما أجبروا على تركه بمكة، حينما هاجروا منها إلى المدينة المنورة، واستولى عليه المشركون، فهذا صهيب الرومي لما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة، تبعه نفر من قريش يريدون حبسه وإرجاعه فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، افعلوا ما شئتم، دللتكم على مالي وثيابي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على رسول الله ﷺ المدينة قال: «ربح البيع أبا يحيى ربح البيع أبا يحيى».
لكن شاءت إرادة الله ﷻ أن تنج قافلة أبي سفيان بعد أن غير مسارها واستطاع أن يفلت من جيش المسلمين، وكان وقع ذلك شديداً على بعض المسلمين، إلا أن الله ﷻ أراد لعباده المؤمنين ما هو خير من القافلة في شهر رمضان المبارك، فقال ﷻ: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾، وفي ذلك درسٌ عظيم، وهو أن قضاء الله خيرٌ للمؤمن أيّا كان، وإن كان الظاهر غير ذلك، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
وبعد فرار القافلة استشار النبي ﷺ أصحابه فيما يفعل، فأشاروا عليه بما فيه مصلحة جيش المسلمين وقام المقداد بن الأسود فقال “يا رسول الله، امض لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك”، وقام سعد بن معاذ رضي الله عنه عن الأنصار من الأنصار فقال: فأوجز، وكان من ضمن ما قال: “والذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي نفسي بيده، ما سلكت هذا الطريق قط، وما لي بها من علم، وما نكره أن يلقانا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك”، وفي هذا الموقف من النبي ﷺ درس في إرساء قواعد الشورى في المسلمين والعمل بها.
وبعد أن علم المشركون بنجاة القافلة أصرّ أبو جهل على المضيّ لملاقاة المسلمين وهو يقود جيشا يملؤه الكبرياء والفخر والغرور وهو يقول: “والله لا نرجع حتى نرد بدرا فننحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا” حتى نزلوا بالعدوة القصوى من وادي بدر، ونزل رسول الله ﷺ عند أدنى ماء من مياه بدر، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه ولا نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال ﷺ: «بل هو الحرب والرأي والمكيدة»، فقال: فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فنهض رسول الله ﷺ وتحوّل إلى المكان والرأي اللذين أشار بهما الحباب –رضي الله عنه–، وفي هذا درس يشير إلى أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
أيها الأحبة في الله: قبل بدء القتال يتحرى النبي ﷺ حال جيش قريش وعدته وعتاده، لاتخاذ التدابير العسكرية المناسبة، والتي تضمن للمسلمين النصر في أولى غزواتهم، ويضع رسول الله ﷺ الخطط وينظم جيشه ويحثهم على الصبر وعلى القتال ويعدهم بالنصر، وكان يخبر أصحابه بمصارع قريش، ويقول لهم هنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان، ومع كل هذا الإعداد والاستعداد والتأييد، إلا أن ذلك لم يغنه عن اللجوء إلى الله ﷻ، بل ظل رافعا يديه ملحاً بالدعاء طوال ليلة المعركة حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه.
وفي الحديث، نظر رسول الله ﷺ إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله ﷺ القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله ﷻ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، حتى أنزل الله عليه النصر والثبات، فعلى الرغم من أن النبي ﷺ كان يعلم قلة الإمكانات، وفقر الحال، عند المسلمين إلا أن ذلك لم يمنعه من الاستعداد والدفاع عن مبادئ الحق والعدل، والاتكال على الله ﷻ.
الخطبة الثانية
عباد الله: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
انتهى القتال بين فئة قليلة مؤمنة أيدها الله، وأخرى كثيرة كافرة تصد عن سبيل الله، لتكون النتيجة، انتصار مؤزر للمسلمين وشهادة حق لهم: «إنّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم»، واستشهاد أربعة عشر رجلاً من المسلمين، وهُزم جيش المشركين وقتل سبعين من صناديدهم، وأسر سبعين، وأضحت أسلحتهم وأموالهم غنائم للمسلمين.
وتحقق وعد الله ﷻ لنبيه الذي كان من دعائه: «اللهم إنهم حفاة، فاحملهم، اللهم إنهم عراة، فاكسهم، اللهم إنهم جياع، فأشبعهم، ففتح الله له يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، فاكتسوا وشبعوا»، وبذلك يعلمنا النبي ﷺ درساً في أن النصر لا يكون إلا من الله، وأننا بعد إعداد العدة والسلاح لا بد أن نلجأ للسلاح الأعظم، وهو الدعاء لأن الدعاء عبادة، قال ﷺ: «الدعاء سلاح المؤمن»، فهو درس عملي في معنى التوكل على الله ﷻ، فالتوكل يكون بالأخذ بكافة الأسباب المادية، ثم مد يد الضراعة إلى الله ﷻ وتفويض الأمر إليه ﷻ.
وقد علّمتنا غزوة بدر أنَّ من نَصَرَ الله ﷻ نصره (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وأن النصر مع الصبر، كما قال الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ولكن الله ﷻ طلب منا أن نأخذ بالأسباب الممكنة حتى لا نكون مجرد متواكلين بل متوكلين وهذا حال النبي يوم بدر.
نعم… هذه الغزوة جعلها الله ﷻ أساساً للجهاد في سبيله، إنها يوم الفرقان، حيث فرقت بين الحق والباطل، نتعلم من خلالها العبودية الخالصة لله ﷻ ووجوب التوجه إليه ﷻ، والإقبال عليه، والتوبة والأوبة له ﷻ.
حقاً لقد كانت غزوة بدر الكبرى… بدراً ينير ويتلألأ… وما أحوج الأمة –سيما هذه الأيام– إلى الوقوف أمام الدروس والعبر المستفادة من هذه الغزوة لتنير ظلامنا الدامس بنور الإيمان بالله ﷻ وجميل التوكل عليه.
اللهم كما نصرت نبينا محمد عليه السلام أنصر هذه الأمة على عدوك وعدوها.
والحمد لله رب العالمين.