عناصر الخطبة
- الأمة الإسلامية أمة العزة والكرامة، والوسطية والاعتدال والعدل والرحمة في المعارك والغزوات.
- معركة الكرامة واسطة العقد بين بطولات الأجداد والأبناء في الدفاع عن الأمة وحماية مجدها وتاريخها في وجه الأعداء.
- معركة الكرامة تحمل وسام الكرامة للأمة، والأردن الأشم نال السبق وحقق المقام الأسمى في انتصاره على المعتدين الذين سولت لهم أطماعهم النيل من عزته وكرامته.
- أردننا العزيز مفخرة في التاريخ الإسلامي بمؤتة الشهداء في جنوبه، وكرامة الرجال الأبطال في وسطه، وانتصار أجداده الصحابة في يرموك النصر في شماله.
- نحن هنا في الأردن أسعد الناس بهذه المناسبة؛ فهي تجدد فينا نحن الأردنيين مشاعر العزة والكرامة والتضحية والفداء.
الخطبة الأولى
لقد شرع الإسلام الجهاد على المسلمين دفاعاً عن أوطانهم ضد المعتدين، بل اعتبر ذلك فريضةً واجبةً لرد المعتدين وحماية الأوطان، واعتبره نوعاً من أنواع العبادة، حمايةً للحق، ورداً للمظالم، وقمعاً للعدوان، قال ﷻ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ الحج: 39-40.
كما أن الله ﷻ أمرنا بالرباط لحماية الدين والوطن، فالمرابطون لا ينقطع أجر رباطهم وعملهم حتى بعد رحيلهم باستشهادهم أو وفاتهم كما بين ذلك النبي ﷺ: «كل الميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر» ← رواه أبو داود في السنن.
وفي وطننا الحبيب سطّر نشامى الجيش العربي المصطفوي أسمى معاني الجهاد والتضحية في سبيل الدفاع عن تراب الوطن الطهور فبذلوا أرواحهم في سبيل الله، وأي شيء أعظم ممن يبذل نفسه في سبيل دينه وأمته، أولئك: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ آل عمران 73، فجاء الرد العظيم الذي عانق السماء ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ آل عمران 73، فلم يخذلهم الله ﷻ، فقال الله في حقهم: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ آل عمران 74.
في ذلك اليوم الأغر من تاريخ الأردن العريق، وبينما كان العالم يشيّد احتفالاته بيوم الأم، كان الرجال الذين تربوا على حب الوطن والإيمان بوعد الله على موعد مع النصر والشهادة وقد حصدت أمهات الأبطال ثمرة التربية على معاني العزة والرجولة والشهامة، فانبرى أبطال وطننا للقتال ضد العدو الغاشم وهم يتلون قوله ﷻ: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ النساء 102. وكانت عيونهم ترنو ليعيدوا للأمة كرامتها التي تحطمت في نكسة عام 1967، و ليسطروا في الكرامة كرامة الإنسان الأردني والعربي، فالنكسات لا تحبطنا بل تحيي فينا عزما جديداً وشعلة تتّقد على مر الأجيال، تلك هي الكرامة.
ففي الحادي والعشرين من آذار عام ألف وتسعمائة وثمان وستين. بلغ الصلف والغرور بأعداء الإنسانية من بني صهيون أن يختبروا جَلَد الأمة وأن يقضوا على شعلة الأمل فيها، فاجتازوا النهر معتدين على تراب أرضنا ووطننا، فتلقاهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فتعالت صيحاتهم: “الله أكبر الله أكبر”، لتزلزل أسطورة الجيش المزعوم بعظمته وأنه لا يقهر، فالتكبير عباد الله من أعظم مجلبات النصر، فالنبي ﷺ كان يقول يوم خيبر: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات» ← متفق عليه، ومآذن التكبير يوم الكرامة لا تزال شاهدة عليه إلى يومنا هذا.
لقد سطرت معركة الكرامة صفحات عز ومجد على أيدي أبطال جيشنا العربي المصطفوي، الذين فخاضوا غمار حرب ضروس مؤمنين بربهم، مدافعين عن تراب وطنهم، ورغم قلة العدد والعدة، فقد أقبلوا على عدوهم بعزيمة حرّة أبية كالجبال الشامخات، لا تقهرها قوة مهما بلغت في تعنتها وطغيانها، فقدموا أرواحهم بين أيدهم وباعوا أنفسهم لله ﷻ مؤمنين أن الشهداء لا يموتون، بل هم أحياء عند ربهم فرحين بما آتاهم الله من فضله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة 111.
جاءت الكرامة لتذكرنا بحمراء الأسد بعد أُحد، وفتح مكة بعد الحديبية، وعين جالوت بعد سقوط بغداد، جاءت لتذكرنا، بأن الأيام دول وأن عاقبة النصر لمن صبر واتقى.
عباد الله: ان المتصفح لتاريخ الأمة يجد فيه أن أيام العزة والتمكين ما جاءت إلا بعد أن أثبتت الأمة أنها أهلٌ لنصر الله، وأن انبعاث الأمة لا يكون إلا بتمسكها بحقوقها الحقيقية، وأن أسس التمكين لها ثابتة بقوله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ محمد: 7، ونصرة الله لا تكون إلا بإتباع أوامره واجتناب نواهيه.
عباد الله: لقد سطرت معركة الكرامة أروع وأرقى ألوان التلاحم، بين القيادة بكل معانيها، وبين الجندية بأبهى صورها، والشعب بكل مقدراته، ذلك اليوم الذي حُفر بذاكرة الزمن وبدماء الشهداء وخطابات الصمود، كيف لا والحسين رحمه الله بكل ما كان يمثله للجيش والشعب يقف في مقدمة الصفوف محفزا للهمم، وكأنه يقول هنا خلقنا وهنا سنموت، ومن أقواله رحمه الله في وصف نتائج المعركة : “وإذا كان لي أن أشير إلى شيء من الدروس المستفادة من هذه المعركة يا إخوتي، فإن الصلف والغرور يؤديان إلى الهزيمة، وأن الإيمان بالله والتصميم على الثبات مهما كانت التضحية هما الطريق الأول إلى النصر، وإن الاعتماد على النفس أولاً وأخيراً ووضوح الغاية ونبل الهدف هي التي منحتنا الراحة حين نقرر أننا ثابتون صامدون حتى الموت، مصممون على ذلك، لا نتزحزح ولا نتراجع مهما كانت التحديات والصعاب”.
إن معركة الكرامة تروي في صفحاتها وساعاتها الستة عشر ملاحم وبطولات قد تعجز عنها معارك تدوم لسنوات، نتوقف عندها بكل إجلال وإكبار لأولئك الذين بذلوا أرواحهم عن طيب نفس لنحيا بكرامة، وقد تشبثوا بمبادئ المدرسة النبوية، التي نجحت في غرس العقيدة القتالية، ورباطة الجأش، والصبر والمصابرة في ساحات الوغى؛ وذلك لقوله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران 200.
كما نأخذ من تلك المعركة وجوب التأهب الدائم والإعداد المستمر، وأن الأمة يجب أن تبقى على أهبة الاستعداد مما يحفظ أمن الأوطان واستقرارها في وجه الطامعين والحاقدين، وهذا مصداق قوله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ النساء 71، وقال ﷻ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ سورة الأنفال 60، ومعنى ذلك هو تحقيق معادلة الردع، وهي المعادلة الوحيدة التي تضمن معنى السلم والسلام.
عباد الله: إن موقع الكرامة من بيت المقدس كموقع الجفن من العين، وان الجيش الذي سيعيد المسجد الأقصى المبارك لن يكون إلا في أكنافه، والمرابطون على نهر الأردن في هذا البلد الطيب هم من سيحرر المسجد الأقصى، إنفاذاً لوعد الله ﷻ، ووعد نبيه ﷺ الذي قال «لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن انتم شرقيه وهم غربيه»، يقول الراوي ولا ادري أين الأردن يومئذ رواه الطبراني والبزار ورجاله ثقات، أولئك المرابطون الذين يكرمهم الله ﷻ، ويُنطق لهم الشجر والحجر نصرة لهم في آخر الزمان فيقول الشجر والحجر: «يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله» ← متفق عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
عباد الله اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
عباد الله: إنَّ ارض الأردن أرض مباركة بأهلها فهي أرض الجهاد والرباط، فجندها وكل ما فيها هم في رباط إلى يوم القيامة فهنيئا لأهل الأردن وجندها، فقد أوصى رسول الله ﷺ أصحابه بالشام فعن ابن حوالة مرفوعا قال: «سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا أَجْنَادًا مُجَنَّدَةً فَجُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» ← رواه الإمام أحمد.
فهنيئا لمن بذل نفسه لهذه الأرض المباركة، وهنيئا لشهدائنا الذي خضبوا بدمائهم ارض الأردن لتختلط مع دماء الصحابة الكرام، داعين الله ﷻ يحشرنا وإياهم مع الذين انعم الله عليهم منم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا مرابطين ومجاهدين.
حفظ الله الأردن وأرضه وشعبه ومليكه. وأعاد إلينا المسجد الأقصى المبارك وما حوله عزيزا كريما.
والحمد لله رب العالمين..