ونستمر في الطَّرح المميز والمتميز للخطب المنبرية التي تتحدَّث عن شهر شعبان. ومن ذلك ما لدينا اليوم، وهي خطبة عن شهر شعبان وصيامه، وما يتعلَّق به —هذا الصيام— من فضائل وأحكام. وهي أحد روائِع الشيخ سليمان الرحيلي —جزاه الله خيرا— على المنبر.
ونحن —بدورنا— قُمنا بتفريغ الخطبة، وتحويلها من صوت —أو فيديو— إلى نَصّ مكتوب، حتى يتمكَّن الزملاء من الخطباء من تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا العمل.
مقدمة الخطبة
إِنَّ الحَمْدَ للَّهِ، أحمدك ربي يا من نأى ورأى ما في القلوب وما تحت الثرى وحجاب الليل منسدل. أحمدك ربي؛ أنت المنادى في كل نائبة، وفي كل مصيبة، أنت المنادى لكل خلقك ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ.. فإنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الخطبة الأولى
ثم —يا عباد الله—.. إن الله خلق الإنسان لعبادته؛ يقول ربنا ﷻ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات] وجعل الله ﷻ طيب الحياة والهناء والسعادة لمن أطاعه وعبده؛ يقول ربنا ﷻ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧].
وقد جعل ربنا ﷻ العبادة أنواعا وجعل منها فرائض ونوافل، وإن من أحب العبادات إلى الله ﷻ الصيام، يقول النبي ﷺ: «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي»، ويقول النبي ﷺ: «الصيام جنّة» وفيه رواية «الصوم جنة من النار». يقول النبي ﷺ: «للصائم فرحتان فرحة حين فطره، وفرحة حين يلقى ربه»، وقال أبو أمامة يا الله: يا رسول الله مرني بأمر أحمله عنك، وفي رواية: مرني بأمر ينفعني، فقال النبي: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له».
وإنكم —يا عباد الله— عما قريب ستدخلون في شهر من شهور الصيام، ستدخلون في شهر يستحب فيه أن نكثر من الصيام فيه، إنه شهر شعبان الذي كان النبي ﷺ يكثر من الصيام فيه. تقول أُمنا عائشة —رضي الله عنها—: ما رأيت رسول الله ﷺ استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منهم في شعبان.
وتقول —رضي الله عنها—: لم يكن رسول الله ﷺ في الشهر من السنة أكثر صياما منه في شعبان.
وتقول —رضي الله عنها—: كان أحب الشهور إلى رسول الله ﷺ أن يصوم شعبان؛ بل كان يصله برمضان.
وقد جاء أن نبينا كان يصوم أكثر شعبان:
فعن أمنا عائشة —رضي الله عنها وأرضاها— قالت: كان رسول الله ﷺ يصوم شعبان إلا قليلا.
وجاء عنه أنه كان يصوم شعبان كله:
فعن عائشة —رضي الله عنها— قالت: لم يكن النبي ﷺ يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم كله، وكان يقول: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا».
وقالت أمنا عائشة —رضي الله عنها—: إن رسول الله ﷺ كان يصوم شعبان كله.
وقالت —رضي الله عنها—: كان أحب الشهور إلى رسول الله ﷺ أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان.
وقالت: ما كان النبي ﷺ يصوم في شهر ما كان يصومه في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلا؛ بل كان يصومه كله.
وعن أمنا أم سلمة —رضي الله عنها— قالت: ما رأيت النبي يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.
وعنها —رضي الله عنها— قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان لا يصل شعبان برمضان.
وعنها —رضي الله عنها— قالت: لم يكن النبي ﷺ يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان ويصل به رمضان.
وجاء الجمع —يا عباد الله— بين صيامه لأكثره وصيامه له كله في حديث واحد فعن أمنا عائشة —رضي الله عنها— أنها قالت: لم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه لشعبان، كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا.
وأظهر أقوال أهل العلم في الجمع بين هذه الأحاديث —يا عباد الله— وجهان:
- الأول: أن النبي كان ينوع في ذلك: فتارة يصوم شعبان إلا قليلا، وتارة يصوم شعبان كله، فلربما صامه في سنة صامه كله ولربما صامه في سنة أخرى صام أكثره، أي صيامه إلا قليلا.
- والوجه الثاني —يا عباد الله—: أن المقصود بصيامه كله أنه يكثر من صيامه، وهذا سائر في لغة العرب يقول القائل: قمت الليل كله وهو يريد أنه قام أكثره، لأنه ربما نام فيه أو أكل فيه أو شرب فيه.
وهذا الوجه الثاني أظهر —والله أعلم— وأقوى في النظر.
فالأظهر والله أعلم أن حال النبي ﷺ أنه كان يكثر من الصيام في شعبان حتى أن الناظر إليه يظن أنه قد صامه كله.
فإن صام المسلم —يا عباد الله— شعبان كله فلا حرج عليه لورود الأحاديث التي تدل على ذلك. وإن صام أكثر شعبان وأفطر قليلا منه فهذا أفضل وأظهر والله أعلم.
وأما حديث «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» وفي رواية أن النبي ﷺ قال: «إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان» فالأصح من أقوال العلماء —يا عباد الله— أن هذا نهي عن ابتداء الصيام بعد النصف من شعبان من باب الاحتياط لرمضان، ثم يتأكد النهي إذا بقي يوم أو يومان لقول النبي ﷺ: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه»، أما من كان يصوم قبل النصف من شعبان فإنه من السنة أن يكمل الصيام بعد النصف من شعبان.
وكذا —يا عباد الله— من كانت له عادة صيام من الشهر فلم يصمها إلا بعد أن جاء النصف من شعبان؛ النصف الثاني من شعبان فإن له أن يصوم تلك العادة.
وأضرب لكم مثالا، فلو أن عبدا من عباد الله كان من عادته أنه يصوم ثلاثة أيام من الشهر فلما جاء شعبان لم يتيسر له أن يصوم هذه الأيام الثلاثة إلا في النصف الثاني من شعبان فإنه يصومها ولا حرج في ذلك.
وكذلك —يا عباد الله— من أراد أن يصوم الاثنين والخميس من النصف الثاني من شعبان فلا حرج عليه في ذلك ولو لم يكن صامها في النصف الأول في شعبان.
وكذا —يا عباد الله— من تيسر له الصيام في النصف الثاني من شعبان حيث كان مشغولا في النصف الأول من شعبان فتيسر له أن يتنفل بالصيام في النصف الثاني من شعبان فلا حرج عليه؛ بل هذا من الصيام المستحب، وإنما النهي كما ذكرنا —يا عباد الله— أن يبتدئ العبد الصيام بعد النصف من شعبان من أجل أن يحتاط لرمضان، من أجل حال رمضان.
ما أجمل —يا عبد الله— ما أجمل يا عبد الله؛ أن تكرم نفسك بالإكثار من الصيام في شهر شعبان مقتديا في ذلك برسولك وحبيبك، ومحييا سنته، مبينا أنك تحب الصيام لأن ربك يحب الصيام، فها أنت وأنت مقبل على شهر يجب عليك أن تصوم فيه وهو شهر رمضان تبادر إلى الإكثار من الصيام في شهر قبله لا يجب عليك أن تصوم فيه، وإنما هو قلب محب الله محب لما يحبه الله ﷻ.
واعلموا عباد الله أن من القواعد الشرعية في النوافل أن يفعل الإنسان ما يطيق وأن لا يمل نفسه، فأنت يا عبد الله انظر إلى حالك وانظر إلى ما تطيق أن تصومه من شعبان، فصم ولك في ذلك خير، فإن أطقت يا عبد الله أن تصوم أكثر شعبان أن تصوم شعبان إلا قليلا، فذاك خير لك، فأنت تتشبه بخير من يتشبه به، تتشبه بالنبي ﷺ وتحيي سنته.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكرموا أنفسكم بطاعة الله، ومروا أهليكم وأولادكم بطاعة الله، فإن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وإنها والله سرعان ما تنتهي وإن العبد منا —يا عباد الله— ليمر عليه اليوم وهو لا يدري هل يدور عليه من الأسبوع، وإن العبد ليمر عليه الشهر وهو لا يدري هل سيمر عليه من السنة الأخرى؛ ولكنه على يقين أنه اليوم في قدرة على أن يتقرب إلى الله بما يستطيع من العبادات كما أنه على يقين من أن الموت قادم لا محالة وأن الموت لا يدري أحد موعده وإنما هو أجل عند الله ﷻ، ألا فلنتق الله عباد الله ولنسارع إلى طاعة الله ولنتسابق إلى جنة الله لعلنا أن نكون من المفلحين.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وهنا خطبة: وقفات مع شهر شعبان – للشيخ خالد المصلح
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فيا عباد الله.. إن من سنة نبيك ﷺ العبادة وقت غفلة الناس، ومن ذلك إكثاره من الصيام في شهر شعبان، قال أسامة بن زيد —رضي الله عنهما— لرسول الله: يا رسول الله؛ لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شهر شعبان، فقال النبي ﷺ: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين فأحب أن ترفع أعمالي وأنا صائم».
إن شهر شعبان —يا عباد الله— شهر يغفل الناس عنه؛ لأنه يقع بين شهر رجب وهو شهر محرم تعظمه الناس وشهر رمضان وهو شهر مبارك يصومه الناس فيه وجوبا، فيغفل الناس فيه عن الصيام وعن الأعمال، فكان النبي ﷺ يحييه بالصيام فيصومه إلا قليلا.
ولذا —يا عباد الله— كان مما [يضاعف] الأجر لعبد الله أن يتعبد الله في وقت غفلة الناس أو في المكان الذي يغفل فيه عن عبادة الله، يقول النبي ﷺ: العبادة في الهرج كهجرة إلي العبادة في الهرج أي في القتل واختلاف الناس بسبب الفتن كالهجرة إلى النبي.
فالعبد —يا عباد الله— الذي يكثر من عبادة الله، يكثر من ذكر الله، يكثر من طاعة الله؛ في وقت غفلات الناس، ذلك يدل على قوة إيمانه؛ فينال ثوابا أعظم وأجرا أكرم؛ بل إن النبي ﷺ جعل ثواب عمله كثواب الهجرة إلى النبي ﷺ.
وأنت يا عبد الله قد فاتتك الهجرة إلى النبي ﷺ ولكن لم يفتك هذا العمل؛ فحيثما كنت في مكان وجدت الناس غافلين عن طاعة الله، فاعبد الله، اذكر الله، واقرأ القرآن فإن لك في ذلك منزلة رفيعة، وحيث ما كنت في مكان رأيت أن الناس فيه في غفلة فلا تغفل معهم يا عبد الله فإذا فعلت ذلك كنت من الفائزين.
ولذا يا عبد الله كان من أسرار قيام الليل —أفضل نوافل الصلاة— أنه يكون في غفلة الناس، ولذا جاء الحديث «صلوا والناس نيام». فعلينا —عبد الله— إذا رأينا الناس في غفلة في زمان أو مكان أن نجتهد في إكرام أنفسنا بطاعة الله ﷻ، بذكر الله، بعبادة الله ﷻ. ولنا في ذلك مقام كريم وفضل عظيم، فالله الله —عباد الله— إن الله أكرمكم فأمد في أعماركم ونوع لكم في أعمالكم ورضي منكم بالقليل؛ فاجتهدوا في طاعة الله يا عباد الله تنالوا ثواب الله ﷻ.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله أمرنا بأمر عظيم جليل بدأ فيه بنفسه ثم ثنى بملائكته فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب]، وقال: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا». فأكرموا ألسنتكم —يا عباد الله— بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ لا سيما في هذا اليوم المبارك يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على النبي ﷺ.
فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليما كثيرا. وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
كذلك يا رفيق.. هذه: خطبة عن فضل شهر شعبان «الصحيح والضعيف»
الدُّعـاء
- اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
- اللهم يا ربنا يا حي يا قيوم نسألك كما جمعتنا بهذا اليوم المبارك في هذه الفريضة المباركة أن تجمعنا وأهلنا ومن نحب في الفردوس الأعلى أجمعين، اللهم اجعلنا من أهل الجنة أجمعين.
- اللهم لا تحرم منا أحدنا، اللهم لا تحرم منا أحدا، اللهم لا تحرم منا أحدا.
- ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
والله تعالى أعلى وأعلم؛ وصلى الله على نبينا وسلم.