لطالما كان الحَثّ على البذل والعطاء من أولويات الأئمة والخطباء والدُّعاة في كل زمان ومكان. وهنا «الآن» نوفر لكم خطبة جمعة مكتوبة عن الوقف في الإسلام. وهو موضوع قلَّما «للأسف» نجد من الخطباء من يتحدَّث عنه أو يُسَلّط الضَّوء عليه.
فهذه فُرصَة لإخواني الخطباء لإلقاء نظرة عن كثب على هذا الموضوع وهذا المحتوى.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، دعا عباده ليكونوا في الخير مسارعين، حتى يجزل لهم الأجر العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، كان مشمرا عن ساعده للعمل بوصايا رب العالمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه العاملين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، واعلموا أن وسيلة التقرب إلى الله ﷻ وطلب مرضاته والفوز بجنته تكون بفعل ما ندب إليه وأمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وعندما دعا الله المؤمنين إلى مغفرته وجنته دعاهم بفعل الأمر “وسارعوا”؛ فقال: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
ثم بيَّن صفات المتقين المستحقين لتلك المغفرة والجنات والأجور، وأول صفة ذكرها هي النفقة في سبيل الله (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
والنفقة -يا عباد الله- اسم جامع لكل إحسان للغير مهما كان هذا الإحسان، صغيرا كان أو كبيرا، وإن من أفضل النفقة والصدقات ما استمر أجره في حياة صاحبه وبعد الممات، وهو الصدقة الجارية أو الوقف.
أيها المؤمنون: الوقف في الإسلام هو حبس الأصل وجعل المنفعة الحاصلة منه في وجه من وجوه الخير، والمراد بالأصل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالعقارات والمحلات والمزارع ونحوها، والمراد بالمنفعة، الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالأجرة والثمرة وسكنى الدار وغيرها، ففي الحديث عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي ﷺ، يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها»، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه).
وجاء عن النبي ﷺ: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما نشره وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته»، فيا باغي الخير أقبل على هذا الخير العظيم الذي ينفعك في حياتك وبعد مماتك، ويا من وسع الله عليه في الرزق أنفق مما آتاك الله، فإن الله قد وعد أن يخلفه عليك (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
وإذا أراد الواقف أن يقف شيئا من أمواله فينبغي له أن يراعي الأصلح والأهم في الجهة التي تصرف إليها أموال الوقف، فلا يقف شيئا قد اكتفى بوقوفاته وغيره من جهات البر معطل عن أموال الوقف لا سيما عند حاجة الناس إليه، فلينظر الواقف ما يكون في مجتمعه وما هو بحاجة إليه، وإن من الوقوفات المهمة الملحة في مجتمعنا اليوم ما كان سببا لتفريج كربة أو سد حاجة، أو ما يتعلق بعلاج الناس ومداواتهم، أو ما يتعلق بطلب العلم، أو وقوفات تزويج الشباب؛ وذلك لما نشاهده من عزوف بعض الشباب عن الزواج أو التأخر فيه لقلة ذات اليد وارتفاع مهره ومؤونته، ونحو ذلك من الأحوال.
أيها المسلمون: للوقف أربعة أركان رئيسة، لا بد من توافرها في كل وقف، وهي: الموقوف وهو الأصل، والموقوف عليه وهي الجهة التي تصرف فيها منفعة الوقف، والواقف، وصيغة الوقف، وهو عقد من العقود التي يلزم فيها التلفظ، ولا يجزي فيه أن ينوي في قرارة نفسه من غير أن ينطق بأنه وقف ذلك المال للغرض الذي خصصه من أجله.
والوقف كما يكون في الأصول مثل العقارات يكون كذلك في المنقولات كالمركبات أو الثياب أو الحلي أو الكتاب الذي يقرأ وينتفع بالقراءة منه. والوقف يخرج الموقوف من ملكية صاحبه؛ فلا يجوز بعدها أن يبيعه أو يهبه أو يتصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرفات، وإذا أصبح المال الموقوف لا يجدي نفعا فعندئذ يمكن التصرف فيه ببيع على نظر العدول الثقات الأمناء ذوي الخبرة في شؤون الأموال، فالأوقاف تراعى فيها مصلحتها؛ فما كان أصلح للموقوف له عمل به وإلا فلا؛ لأن سبيل الوقف سبيل اليتيم، والله ﷻ يقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ).
فلا يجوز التعدي على شيء من أموال الأوقاف؛ فإنها أمانة في عنق من وليها، يراعي دائما الأصلح في حقها، ولا يتوانى أو يتكاسل في الحفاظ عليها وعلى تثميرها، ففي الحديث عن أنس أن رسول الله ﷺ، قال: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ أم ضيع»، ويجوز أيضا تعليق الوقف بموت الشخص الواقف، ويدخل حينها في حكم الوصية (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فلا يتجاوز الثلث ولا يقف لأولاده لأنه كالوصية، ولا وصية لوارث، وتغيير أي شيء من أحكام المواريث بوقف أو وصية أو غيرها تجاوز لأمر الله وتعد لحدوده.
فاتقوا الله -عباد الله-، والتزموا أمره؛ فثم الخير والجنان والرضوان، وانتهوا عن معصيته؛ فثم الشر والإثم والخسران.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه ← خطبة عن الإنفاق في سبيل الله.. من وقف أو صدقة أو زكاة
الخطبة الثانية
الحمد لله، ولي الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيم المنان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، المؤيد بالحجة والبرهان، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد، فيا -عباد الله-: لقد تنافس آباؤنا وأمهاتنا في مضمار الوقف، فكانوا يقفون لوجه الله ﷻ القليل والكثير، فمن وقف للفقراء، ورعاية الأيتام، وسقاية العطشى، ومن وقف لفطرة الصيام، ومن وقف لعلاج المرضى، ومن وقف لإقراء القرآن الكريم وتعليمه، ومن وقف للكتب العلمية على طلاب العلم، وهكذا تعددت الوقوفات لدى أهل الإسلام عامة ولدى أهل عمان خاصة حتى ذكروا العشرات من أنواع الوقوفات في عمان.
ومن أقدم الأموال الموقوفة في عمان وقف الصحابي مازن بن غضوبة الطائي رضي الله عنه على مسجده المضمار، ولم يزل أهل الإسلام بعد أصحاب النبي ﷺ يتتابعون في حبس ما أحبوا من أموالهم قربة لله ﷻ وتزلفا إليه، لما أدركوا من أهمية الوقف ومكانته ودوره الحضاري، في تنمية المجتمعات، وعلو شأنها ورفعتها، وما يعود عليهم من منافع في الدنيا ونعيم مقيم في الدار الآخرة، فظهرت عبر العصور في بلدان إسلامية كثيرة مدارس كبيرة تضاهي جامعات اليوم المرموقة في تنوع تخصصات العلوم فيها، وتوجه الدارسين إليها من جميع أقطار العالم بسبب الوقوفات عليها، وعولجت مظاهر البؤس والفقر والحرمان في مناطق كثيرة بوقف البساتين والبنايات والعقارات ودفع ريعها إلى ذوي الأجور المتدنية، وزوج بذلك العزاب، وسددت الديون المتعثرة، وسويت الطرق المتأثرة، وشقت الأفلاج في هضاب وفجاج، فخير الوقف عميم، وعطاؤه عظيم، وبتنميته وتثميره، وتعميره وتطويره نصل إلى غاية المنى وتحقيق الأهداف المرجوة.
فعلى منوالهم يا -عباد الله- فسيروا، وعلى منهاجهم فتابعوا (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.