مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق النفوس وسوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، وجعلها محلًّا للابتلاء في الخير والشرّ. نحمده سبحانه ونستعينه، ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وهادياً إلى صراط الله المستقيم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الأطهار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
الخطبة الأولى
عباد الله، إن النفس مكونة من ثلاثة أجزاء. وهنّ: 1 النفس الأمارة بالسوء، كما يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يوسف: 53، ثم 2 النفس اللوامة، كما يقول الله تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ القيامة: 2، ثم 3 النفس المطمئنة، كما يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ الفجر: 27-28. والنفس الأمارة بالسوء هي عدوك الألد الذي بين جنبيك، كما ورد في كتاب الزهد للبيهقي: (أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ). وهي أسوأ من سبعين شيطانا. واعلموا أن النفس اللوامة هي التي تصد النفس الأمارة، فهي الضمير الحي. واعلموا أن النفس المطمئنة هي ما تفوقهما الاثنين وتراقبهما الاثنين.
واعلموا أن النفس تأتيها هواجس وخواطر بشكل مستمر ودائم. هذه الهواجس والخواطر هي ما تؤدي إلى الأفكار والأعمال. وأصل هذه الهواجس أربعة، اثنان منها خير واثنان منها شر. أما خواطر الخير، فهما أولا: من الله سبحانه وتعالى، وهذا يأتي على صورة أمر، وثانيا: من الملَك، وهذا يأتي على هيئة نداء. أما بالنسبة لخواطر الشر، فهما أولا: من الشيطان، وهذا يأتي وسواسًا: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ الناس: 5، وثانيا من النفس الأمارة بالسوء، فهي تأمر بالسوء.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ البقرة: 235. فعلى المسلم أول ما يأتيه هاجس أو خاطر أن يسأل حاله: هل ما يقترح هذا الخاطر حرام أو مكروه أو مباح أو مستحب أو فرض؟ فإن كان حراما في ميزان الشرع فليتركه فورا. وإن كان فرضاً فليعمله فوراً حسب استطاعته. وإن كان مستحباً أو مباحاً أو مكروهاً فليسأل نفسه: هل عليه فرض يتقدم عليه، كأداء الصلاة؟ فإن لم يكن عليه فرض أو ترك لمحرم فعليه أن يتساءل: ما أصل هذا الخاطر، لأنه ربما يُلقى عليه خاطر مباح حتى يستدرجه إلى الحرام. فليحذر.
ومن المهم أن يعرف الفرق بين طبيعة الخواطر الأربعة، وبالذات بين خواطر النفس وخواطر الشيطان. وخواطر النفس الأمارة بالسوء هي أقوى خواطر السوء، لأنها تأمر وتلحّ وتستمر وتكون هوى وشهوة. والوقاية خير من العلاج. فمراحل جميع الخواطر خمس: الأولى، الهاجس، وهو مجرد اقتراح عابر، وهو سهل الرد. لكن إذا سُمح له أن يستمر يصبحُ خاطراً، فيلحّ ويرجع. وإن تُرك، يصل إلى المرحلة الثالثة: وهي حديث النفس، ويُشغل النفسَ في التفكر فيه. وإن ما صُدّ —وهنا صدّه صعب— يكون هوى أو شهوة مع هَمّ. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ يوسف: 24. ولغاية حديث النفس فكل أفكار بني آدم مغتفرة. قال رسول الله: (إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تكلم به)، أخرجه البخاري ومسلم. وعند الهمّ يدخل بالخطر. وبعد الهمّ تكون عزيمةً ثم عملًا ثم ذنبا ومعصيةً إن كان العمل مخالفا للشرع. فليحذر الإنسان وليوقّف حديثَ النفس.
حديث النفس الذي من النفس الأمارة بالسوء تخمد ناره بذكر الموت والحساب. وحديث النفس الذي أصله من الشيطان تخمد ناره بذكر الله، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، الأعراف: 201. والفرق بينهما أن حديث النفس الأمارة بالسوء كالأسد، فيهجم من الأمام، ولذلك يكون توقيفُه بقتله بذكر الموت والحساب. أما وسواس الشيطان، إن صُدّ أول مرة، يأتي بموضوع ثان، وهدفه ليس الإصرار على المعصية ولكن الصرف عن الخير، فهو كالذئب يهجم من اليمين فإن صُد هجم من الشمال، وإلا هجم من الخلف، وهلمّ جرًّا. فيقول الشيطان، كما وصفه الله في كتابه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، الأعراف: 17.
واعلموا يا عباد الله أن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ يوسف: 5، فراقبوه في خواطركم. لأنه مبين. وأبشروا، فـ ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ النساء: 76.
واعلموا أخيرا يا عباد الله أن الخواطر تأتي كلُ واحدٍ منها حسب طبيعتها بثواب أو عقاب. يقول الله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف: 182. فعلى سبيل المثال، بعد عمل سيئ أو محرم، تأتي النفس أو الشيطان بمعصية أخرى وربما كانت أسوأ من الأولى. وهذا جزء من عقابه في الدنيا إلى أن يدخل في دائرة السَّوء آخرها الهاوية، ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ الشورى: 40. ومن ناحية أخرى فإن جزاء العمل الصالح آخَرُ يليه، ف ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ الرحمن: 60. فيدخل الإنسان في دائرة الخير، وآخره الصلاح. فعلينا جميعا بمراقبة خواطرنا قبل العمل بهن. وطالما أحيينا لا نستسلم لهذه الخواطر قبل أن نعرف أصلها ومآلها.
وبالخلاصة، يقول الإمام البوصيري:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منها خصما ولا حكما
فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
كم حسّنت لذة للنفس قاتلةً
من حيث لم تدرِ أن السم في الدسم
وأستغفر الله العظيم لي ولكُم
أمَّا هذه، فهي ⇐ خطبة عن النفس المطمئنة – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل في التوبة نجاة، وفي الاستقامة حياة، نحمده سبحانه على فضله العظيم، ونشكره على لطفه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله، النفس الأمارة بالسوء فتنة للعبد وابتلاء، ومكافحتها جهاد عظيم ووفاء، فمن استعان بالله عليها نجا، ومن أسلم قياده لها هلك وشقي. فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنعودها الطاعة قبل أن تفارقنا ساعة.
فلنتذكر قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾، فلنجعل من جهاد نفوسنا طريقًا إلى الجنة، ومن كبح جماحها سبيلًا إلى الطمأنينة. ولنستعن بالصبر والصلاة والذكر والدعاء، فإنها وسائل قمع الهوى، والارتقاء بالنفس إلى مقام التقوى.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم بذلك ربكم الكريم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعنّا على أنفسنا، واهد قلوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى. واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.