المستهلك بين الثوابت والمتغيرات. بهذا العنوان ستكون خطبة الأسبوع هذه التي نقترحها عليكم يا رِفاق الدَّرب. وهي تلك الخطبة الجميلة التي تتحدَّث عن حقوق وواجبات كُلا من البائِع والمشتري، وكذلك تسوق الوصايا والإرشادات والنصائِح لكلاهما.
فلا تفوتك يا أخي الخطيب، فلعلها تكون النافِعة للناس إن شاء الله ﷻ.
مقدمة الخطبة
الحمد لله المنان، أمر عباده بالعدل والإحسان، ونهاهم عن البغي والعدوان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعانا إلى عدم الاحتكار، ونهانا عن التبذير والإسراف، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، الصادق الأمين، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه الأبرار.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—؛ فمن اتقاه فتح له أبواب الخير، ودفع عنه أسباب الشر والضير ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾.
الخطبة الأولى
عباد الله: اقتضت حكمة الله أن تكون هناك تعاملات بين العباد، لا تستمر الحياة إلا بها؛ فتتحقق الحكمة البالغة ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، فالخلق مسخر بعضهم لبعض، ولا يمكن لإنسان أن يعيش بمعزل عن أخيه الإنسان؛ فلا بد من بيع وشراء، وأخذ وعطاء، وعقود ومعاملات، فجاء الإسلام الحنيف منظما لتلك التعاملات، وسانا لجملة من الأحكام والتشريعات؛ لتنتظم حياة البشر، وتحفظ أنفسهم وأموالهم؛ فكان النداء الرباني العظيم للمؤمنين والمؤمنات في كل زمان ومكان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾، وقرن هذا النهي بنهي آخر، فقال أحكم الحاكمين ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، فدل هذا الاقتران أن التزام الحق في التعامل المالي سلامة لأرواح البشر وضمان لها ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾.
أيها المؤمنون: إن الإسلام الحنيف جاء ليحقق العدالة للناس أجمعين؛ فكان داعيا إلى ما فيه حفظ لحق البائع والمشتري، فليس للبائع أن يضر المشتري، وليس للمشتري أن يضر البائع «ومن غشنا فليس منا».
فصاحب السلعة مأمور بأن يعرض سلعته على ما هي عليه من غير أن يذكر ما ليس فيها، وليس له أن يخفي عيبها إن كان بها عيب؛ فإن ذلك يتنافى مع الأمانة التي وجب على الإنسان أن يتصف بها ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾.
وليس للمشتري أن يضر البائع؛ فليس له أن يحط من شأن السلعة، وليس له أن يزعم أنه وجدها بثمن أقل من الثمن الذي عند صاحبه وهو غير صادق؛ فإن ذلك شيء لا يقره الشرع، وتأباه الأخلاق التي ربى عليها الإسلام أتباعه «فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، والصدق والأمانة صفتان متلازمتان، فالتاجر الذي تتوافر فيه صفة الصدق تتوافر فيه الأمانة، والعكس صحيح، وهاتان الصفتان كانتا عند أغلب التجار المسلمين، ومن خلالهما استطاعوا الوصول إلى قلوب غير المسلمين الذين أحبوا هذا الدين وبدأوا يدخلون فيه، وقرب هؤلاء التجار الناس منهم، وكسبوا ثقتهم لما حملوه من أخلاق عالية ومبادئ سامية وصفات جليلة، وعبادات الإنسان من صلاة وصوم وحج وزكاة تجد آثارها منعكسة على تعاملات الإنسان في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه؛ فتجد المؤمن حقا على منهاج النبي الكريم قرآنا يمشي على الأرض ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
إخوة الإيمان: لقد منع الإسلام الاحتكار «ولا يحتكر إلا خاطئ»، فليس للإنسان أن يجمع سلعة من السلع في المخازن بقصد حجبها عن الناس حتى يحتاجوا إليها؛ فيبيعها لهم بثمن فوق ثمنها المعتاد، أو ليعرضها في وقت لا تكون فيه متوافرة بالمقادير التي يحتاج إليها الناس —فيكون الطلب أكثر من العرض— فيبيعها بثمن أكثر من ثمنها؛ فإن ذلك من الاعتداء الذي حرمه الله جل جلاله ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
وليس للإنسان أن يستغفل الناس؛ فيرفع عليهم الثمن؛ فإن ذلك من الغرر المحرم؛ وقد نهى النبي عن بيع الغرر، وفي ذلك كذب على المستهلك وتدليس عليه، والمؤمن لا يكون كذابا، فمن صور ذلك رفع أجرة السيارة على من لا يعرف سعر الأجرة، ومن ذلك بيع سلعة بسعر مبالغ فيه لمن لا يعرف سعر السلع في ذلك المكان، وذلك احتيال وعدوان، ولا ينبغي أن يكون في بلد قلده رسول الله وسام الأخلاق، وقد راعى دين الرحمة المستهلك فمنع من تلقي أصحاب البضائع قبل أن يصلوا إلى الأسواق لاشتراء البضائع منهم وبيعها بعد ذلك بغير سعرها، ومن وقع عليه شيء من ذلك وجب عليه تبليغ الجهات المختصة التي تحمي المستهلك، وتراقب الأسواق؛ فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
معاشر المؤمنين: في حالات الغلاء لا بد لنا —نحن المستهلكين والمشترين— من توجيهات يجب أن تراعى؛ ومنها عدم التوسع في الشراء وجعله هواية كما هو حال بعض الناس يجعلون من هواياتهم التسوق، فالمال في ديننا له شأن عظيم ومنزلة سامية؛ فالإنسان محاسب عليه، فيما اكتسبه وفيما أنفقه، وما أعظم ذلك الميزان القرآني الذي أمر الله عباده بامتثاله فقال: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾. وقيل إن جابر بن عبد الله —رضي الله عنهما— مر يوما على عمر بن الخطاب ومع جابر لحم، فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: هذا لحم اشتهيته فاشتريته، قال له عمر: أوكلما اشتهيتم اشتريتم! أما تخشى يا جابر أن تكون من أهل هذه الآية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾.
فمراعاة الأولويات مطلب شرعي، وضرورة ملحة، وينبغي ألا تذهب المشتريات في كماليات لا قيمة لها ولا فائدة من شرائها، والعاقل من تحلى بالقناعة، وتذكر وصية النبي «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم».
فاتقوا الله —عباد الله—، وتأملوا قول الله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾، وعلقوا قلبكم بربكم، وسلوه من واسع فضله، يمدكم بالخيرات، ويبارك لكم في الأرزاق.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه خطبة: أخلاقيات البيع والشراء وآدابه
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—، واعلموا أن الإنسان مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»، فوجب على المؤمن أن يتحرى الحلال الطيب، وما أوسع أبواب الحلال! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.
وإن من الأمور التي تهاون فيها بعض الناس صرف الشيكات غير المغطاة من البنوك، فيشتري المستهلك أو التاجر سلعة أو عقارا ويعطي البائع شيكا غير مغطى، وقد يكون البائع غير منتبه، أو وثق ثقة عمياء؛ فذهب ماله أدراج الرياح؛ فلا هو بسلعته أو عقاره، ولا هو بثمن ذلك؛ فيندم ولات حين مندم، وكم من إنسان وقع فريسة هذا النوع من الاحتيال؛ فمنهم من ذهبت سيارته، ومنهم من ذهب بيته، ومنهم من ذهبت بضاعته، فيمضي الزمان وهو يجري وراء من خدعه، فالواجب على الإنسان أن يكون في غاية الانتباه، واعيا لما له وما عليه، ملتزما الأمانة في جميع أحواله، راجيا السعادة في حاله، والفوز في مآله.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.