خطبة عن أهمية الفتوى ودورها في تحقيق الأمن الاجتماعي

عناصر الخطبة

• حاجة الناس إلى المفتي كبيرة، في كل عصر وزمان بسبب تعدد حاجات الناس وتجددها.
• يجب على المسلم أن يحتاط لدينه وأن يسأل من يثق بدينه وعلمه وأمانته.
• الفتوى أمرها عظيم، فلابد للمتصدر لها أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية لأنه مسؤول عن فتواه أمام الله ﷻ.
• يحرم الإفتاء بغير علم، وهو من كبائر الذنوب وأعظمها خطراً.

الخطبة الأولى

خَلَق الله ﷻ الناس على الفِطْرَة وأرشدهم إلى سبل الهداية والصلاح، ودلّهم على عظمته وقدرته، وبعث لهم الأنبياء والرُّسُل لإخراجهم مِن ظلمات الجهل والمعصية إلى نور العلم والطاعة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكان أول ما نزل من القرآن الكريم هو ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ العلق: 1، فالدين قائم على العلم والتعلم والفهم لأوامر الله ﷻ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على تعلم أمور دينهم فيسألون النبي ﷺ عما يعرض لهم من مسائل فتنزل الآيات بالفتوى من الله ﷻ لبيان ما سألوا عنه من أمور دينهم، فالفتوى هي بيان حكم الله في الواقعة بدليل، ولعظم أمرها وأهميتها فقد تولاها الله عز وجل بنفسه فبيّن للناس أمور دينهم، قال الله ﷻ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ…﴾ النساء: 176، وقال ﷻ: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ…﴾ النساء: 127.

وقد تولى نبينا محمد ﷺ أمر تبليغ الدعوة وإرشاد الناس وهدايتهم وتبيان الأحكام الشرعية لهم، فكان يفتي الصحابة ويعلمهم أمور دينهم من الحلال والحرام وسائر أحكام الشريعة، وأحياناً كان نبينا ﷺ يتوقف في أمر الفتوى حتى يأتيه الوحي من الله ﷻ بالإجابة عن أسئلتهم، كقوله ﷻ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) البقرة: 189، وقوله ﷻ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) البقرة: 219، وغيرها كثير من الآيات.

وبعد انقطاع الوحي بوفاته ﷺ، تصدى لهذه المهمة الجليلة العلماء من الصحابة والتابعين وتابعيهم من العلماء أصحاب الاجتهاد والرأي الذين حملوا ميراث النبوة واستكملوا حفظ أمانة العلم والدين عن نبيهم ﷺ، فقال ﷺ:«إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ← سنن أبي داود.

فالعلماء هم ورثة الأنبياء، يبينون للناس الحق، ويرشدونهم إلى طريق الخير، وسبل السلام، ويبصرونهم بالحلال والحرام، وإذا فقد العلماء بحيث لا يجد الناس من يعلمهم أحكام دينهم في عباداتهم ومعاملاتهم وشؤونهم، ساد الجهل، وتخبط الناس في الضلال فيحلون الحرام ويحرمون الحلال، ويرتكبون المعاصي، ويعملون السيئات، ويسيرون وفق أهوائهم، فيقع الخلل بعباداتهم ومعاملاتهم.

ومع تقدم العصر، وتعدد حاجات الناس وكثرة نوازل العصر ومسائله التي لم تكن في زمن السابقين وكثرة الوقائع =، والمسائل المتجددة، والتي لا بد من معرفة حلالها من حرامها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، كان لا بد من الرجوع إلى العلماء الصادقين الذين ينهلون من قواعد الشريعة الغراء ويبنون الأحكام على ما ورثوه من قواعد أصيلة تراعي مصالح الأمة ومآلات الأحكام، لقول الله ﷻ: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ النحل: 43.

فالفتوى شأنها عظيم وهي توقيع عن الله ﷻ، يسأل عنها من تحملها يوم القيامة، فلابد للمتصدر لها أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية، قال الإمام النووي رحمه الله:”اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية, ولكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله ﷻ”.

ولأهمية الفتوى وخطورتها ودقة مسؤوليتها فقد عني الفقهاء بموضوعها عناية بالغة فكان السَّلَف رضي الله عنهم يَتَدافَعُون الفَتوى، كُلّ منهم يُحيلها على صاحِبه، وكانوا يتهيبونها أشد الهيبة، ويتريثون قبل الجواب طلبا للسلامة، وجاء في كتب الفقه: “وقد كان السلف رحمهم الله ﷻ يهابون الفتيا، ويتشددون فيها، ويتدافعونها”.

وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: “أدركت عشرين ومائة مِن الأنصار مِن أصحاب رسول الله ﷺ يُسْأل أحدهم عن المسألة فَيَرُدّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى تَرْجِع إلى الأول”.

وقال ابن حصين: “إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لجمع لها أهل بدر”.

وسئل مالك عن مسألة فقال: “لا أدري فقيل: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سَمِعت قَوْله جلّ ثَنَاؤُهُ ﴿ إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا﴾ المزمل:5”.

ونحن نجد الكثير من الناس اليوم يتصدرون لأمر الفتوى في أخطر المسائل وأدقها دون أن يكون لهم أدنى نظر، أو معرفة بالأحكام الشرعية وقواعدها، والفتوى من الأمور العظيمة التي يجب الحذر منها والنهي عنها، دخل رجل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن التيمي المعروف بربيعة الرأي _شيخ الإمام مالك_ وهو يبكي فقال: ما يبكيك – وارتاع لبكائه – أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: “لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم”.

قال بعض العلماء: فرحم الله ﷻ شيخ إمام دار الهجرة فكيف لو أدرك زماننا ورأى الجرأة على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة.

فالتجرؤ على الفتوى بغير علم يشكل خطراً على الدين والأمة والمجتمع، لأنه افتراء على الله ﷻ وعلى شريعته السمحة، وقد ذم الله ﷻ الذين يفترون عليه الكذب بالتحليل والتحريم بغير علم كما جاء ذلك في قوله ﷻ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل: 116، فجعل الله ﷻ الخيبة والخذلان لمن يتقول على الله ﷻ غير الحق في الدنيا، ثم توعدهم الله ﷻ ببيان سوء عملهم عند وفاتهم وبالعقوبة في اليوم الآخر فقال ﷻ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) الأنعام: 93.

وقال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنه قال:«أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار» ← سنن الدارمي.

وما كانت هذه العقوبة الشديدة من الله ﷻ إلا لأن الفتوى بغير علم من التقول على الله ﷻ الذي هو من خطوات الشيطان التي قال عنه الله ﷻ: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: 169.

فلا يحق لأي إنسان أن يتجرأ على الفتوى حتى لا يكون سببا في ضلال عباد الله وإضلالهم خاصة إذا ما علمنا أن الفتوى بغير علم تجر على صاحبها الخطيئة والإثم قال ﷻ: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الأنعام: 144، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»؛ «ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» ← سنن أبي داود.

كما لا بد للمسلم أن يحذر من الفتاوَى التي لا مصدَر لها، أو من فتاوى لا يتبنَّاها الفقهاء، ولا تجتمع عليها كلِمتُهم، خاصّة في المسائلِ العامّة، والنوازل التي تنزل بالأمّة الإسلاميّة اليوم، فكم من الناس يهلكون أنفسهم، ويهلكون غيرهم، بسبب فتوى بغير علم، وحسبك ما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» ← سنن أبي داود.

فهذه مسألة واحدة من مسائل الطهارة التي يظنها البعض بسيطة هينة أدت الفتوى فيها بغير علم إلى قتل امرئ مسلم بغير حق ومسّت الأمن الاجتماعي في المجتمع، فكان ردّ النبي ﷺ حاسماً بقوله: «قتلوه قتلهم الله» ثم دلّهم على المنهج الصحيح وهو السؤال، فكيف بمن يتجرأ ويُفتي بتكفير الناس وردتهم، إراقة دمائهم ودفعهم إلى الموت.

وكما أن للفتوى بغير علم أثر في زعزعة الأمن الاجتماعي والإخلال بمنظومته، فإن للعلماء الصادقين العارفين بأمور الفتوى ومآلاتها دور كذلك في الحفاظ على أمن المجتمع واستقراره، حيث يراعون عند إصدار الفتوى الحفاظ على الأمن الاجتماعي بحفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وقد جاء رجل لابن عباس رضي الله عنه فقال: «لمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما بال اليوم! قال: إني أحسبه رجل مغضب يريد أن يقتل مؤمنا، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك» ← مصنف ابن أبي شيبة.

فابن عباس رضي الله عنه لم يغير الحكم الشرعي الذي يعرفه وهو أن للقاتل توبة ولكنه أراد بفتواه ترسيخ الأمن في المجتمع بمنع القتل في لحظة أو زمن علم أن القتل من الممكن أن يقع فيه، وهذا منهج أصحاب النبي ﷺ في الفتوى، فليعلم الذين يفتون الناس بغير علم، أنهم سيقفون بين يدي الله ﷻ يوم القيامة، فيسألهم عما أفتوا به قال الله ﷻ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ الصافات: 24.

⬛️ مُقترح: خطبة عن خطورة الإسراف وعاقبة المسرفين.. ﴿ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عباد الله أوصيكم ونفسي المذنبة بتقوى الله ﷻ، وأحذركم من عصيانه ومخالفة أمره، حيث يقول الله ﷻ في محكم كتابه: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾ الأحزاب: 70-71.

إن الله ﷻ أمر العباد بطاعته وعبادته فيما شرع لهم، وأمرهم أن يتعلموا ما تستقيم به عبادتهم، والفتوى من أهم سبل التعلم، فالحديث عن الفتوى حديث ذو شأن عظيم، فمن عظيم شأنها أن جعلها الله قرينة لأعظم الأعمال التي نهى عن الوقوع فيها، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف: 33.

فيجب على المسلم أن يحتاط لدينه، فيسال من يثق بدينه وعلمه، ولا يبرأ من العهدة بسؤالهم، فإن الأمر دين، وكما قال محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» ← صحيح مسلم.

وقد أصبحت الفتوى في زماننا أشد خطرا، لأننا نعيش في بيئة انتشرت فيها وسائل التواصل الاجتماعي التي كثرت فيها منابر الإفتاء التي قد لا تراعي أحوال السائلين، أو لا تنظر في مآلات الفتوى أو مصالح العباد، فيتم إصدار الفتاوى الشاذة التي لا تراعي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية أوما يترتب على الفتوى من مآلات ونتائج، فيقع المتلقي والمستفتي فريسة لأصحاب الفتاوى المنحرفة أو الأفكار الشاذة التي ألبسها أصحابها لباس الإسلام، وأفرغها من المضمون الحقيقي للإسلام، ولا زالت آثار بعض هذه الفتاوى المدمرة ماثلة في المجتمعات الإسلامية اليوم.

فحري بنا أن لا نتناقل الفتاوى الشاذة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وأن لا نقوم بنشرها وترويجها من غير التثبت من مصدرها وصحتها، كما يجب الحذر وعدم أخذ الفتوى إلا عن الثقات من العلماء، بل نتخير لأنفسنا الأصلح، ولا نسلم عقولنا لجاهل أو مغرض، بل نبحث عن العلماء الربانيين، فنسألهم الفتوى بما تعلموا من كتاب ربهم وسنة نبيهم بفهم سليم تتحقق فيه مرضاة الله التي هي غاية المسلم.

والحمد لله ربّ العالمين..

⬛️ ما رأيك أيضًا بـ: خطبة عن الحوار في الإسلام – مفهومه وآدابه