عناصر الخطبة
- مدح الله ﷻ أصحاب الهمم العالية، والعزائم المتّقدة الذين يسارعون في كل خير ومعروف.
- استطاع الصحابة والتابعون أن يشيدوا بناء الإسلام ويقيموا اركانه بقوة إرادتهم وعزيمتهم.
- بعلو الهمّة استعاد صلاح الدين المسجد الأقصى والمقدسات من يد المحتلين والمعتدين.
- غرس قيمة علوَّ الهمةَ في قلوب أجيال الأمة، هو مفتاح النجاح وتحمل المسؤولية والريادة في شتى الميادين.
- المواظبة على الدعاء وذكر الله ﷻ في اليوم والليلة ففيهما تفريج للكربات وتنزيل الرحمات.
الخطبة الأولى
من فضلِ الله ﷻ ونعمهِ الجليلةِ على أمةِ الإسلام، أنه جعلها خاتمة الأمم، وجعل فيها الخيرَ العظيم الذي أُسس على أركانه بناءُ المجدِ والحضارة، وما كان هذا الصرح الإيماني ليستمر إلا بهمّة أبنائه الذي تحملوا أمانة المسؤولية في كل عصر وزمان، يقول ﷻ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران:110، فعلوُّ الهمَّة إن اقترن بالإيمان والعِلم، والإخلاص في القولِ والعمل، يسمو بالمجتمعِ ويصلحُ ما أفسدَهُ الدهر، فالهِمَّةُ، مشتقةٌ من الهمِّ، وهو توجهُ القلب وقصدُه بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق واستصغار ما دونَ النهايةِ من معالي الأمور، وطلبُ المراتب الساميةِ في كل ميدان، لذلك قيل: “رجلٌ ذو همّة يحيي أمّة”.
وقد مدحَ الله ﷻ أصحابَ الهمم العالية، والعزائمَ المتّقدة الذين يسارعون في كلِّ خيرٍ ومعروف، ولا يصيبهم اليأسُ والقنوط، فقال ﷻ: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الواقعة: 10-11، وذمَّ الله ﷻ المتقاعسينَ والمتخاذلين، الذين تغلغلَ فيهم اليأسُ والتسويفُ في كل أمر، وعاشوا على الأوهامِ وغرفوا من وهمِ الأحلام، فقصُرت هممُهم عن العملِ والاجتهاد، فقال ﷺ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ← سنن الترمذي.
وكان النبيُ ﷺ يستعيذُ من العجزِ والكسلِ لأنهما سببُ كلِّ تأخرٍ وتخلف، فيقول في دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» ← صحيح البخاري.
ولا شكَّ أنَّ الأنبياءَ عليهم الصلاةُ والسلام، همُ القدوةُ الحسنةُ في ميدانِ الفضائلِ، والمثالُ الأعلى في التشبِّهِ بعزمِهم على تحمِّل المشاقِّ والمصاعِب في سبيلِ الدعوة، وقد أمرنا الله ﷻ بالتشبِّه بهم في طلبِ معالي الأمورِ، والصبرِ على المشاق، فقال ﷻ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف: 35، فإنما كان فضلُهم لمزيدِ عزمهِم وإصرارِهم، ورسول الله ﷺ قد بلغَ أعلى الدرجات، وضرب أروع الأمثلة في علوِّ همّته وطلبِه لمعالي الأمور، والأمثلةُ على ذلك تتجلى في كل لحظةٍ من لحظاتِ حياتِه، فلم يدع اليأس والعجز يتسللان إلى قلبه، ولم يكن ليرضى بسفاسف الأمور، بل كان يطلب معاليها، ومنتهى ما يمكن أن يصل إليه فيها، من كل أمرٌ يحبه الله ﷻ ويرضاه، يقول النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ ﷻ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» ← المعجم الكبير للطبراني.
فإذا نظرنا إلى بداية بعثته ﷺ حين كانت قريش تؤذيه وتطالبه بالتخلي عن هذا الدين، ولم يكن معه ناصر ولا معين، ومع ذلك فقد ظهرت علوّ همة النبي ﷺ في دعوته حين أجاب قومه: «يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ» ← سيرة ابن هشام.
ويتكرر استبشار النبي ﷺ بالمستقبل وشحذ همم الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ» ← مسند الإمام أحمد.
وفي غزوة الخندق، كان الصحابة يعانون من بطش المشركين وحصارهم في المدنية المنورة والعدو يحاصرهم من كل جانب، وأما رسول الله ﷺ فكانت همتهُ العالية ترنوا إلى فتح الشام واليمن وفارس، ولسانه يبشرهم بها فيقول: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ» ← مسند الإمام أحمد.
وقد جسّد الصحابة الكرام هذه الروح المعنوية العالية، وتجلّت علو همتهم رغم ضعفهم وقلة حيلتهم وإمكانياتهم متسلحين بسلاح الإيمان بالله ﷻ، فأقاموا أمةً بلغت حضارتها المشارق والمغارب، بقوة عزمهم ومثابرتهم على الدفاع عن المبادئ الإسلامية قولاً وفعلاً وتضحية بالأرواح والأموال، وطلباً لنصرة الحق، وكأن كلّ واحد منهم تحدثه نفسه وتحثّه على طلب الدرجات العُلا فتقول له: “إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر”.
وهذا خالد بن الوليد سيف الله المسلول وفارس الإسلام رضي الله ﷻ عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال: “لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء”.
فمعالي الأمور لا يقدر عليها إلا من رزقه الله علو الهمة، تلك الهمة التي يصفها الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: (علو الهمة من الإيمان).
وقد شهدت غزوات الصحابة في بدرٍ وأحدٍ ومؤتة واليرموك على علوِّ همة الصحابة وإخلاصهم وهم يقاتلون أشد القتال نصرةً لدين الله ﷻ ودفاعاً عن نبيه رغم قلة عددهم وعتادهم حتى نصرهم الله ﷻ وقوى ضعفهم، وبارك في عددهم، ففتحوا البلاد شرقاً وغرباً، وبعد أن كنا أمةً مستضعفة تعيش على هامش الأمم، أصبحت أمة قوية عزيزة كريمة تهابها جميع الأمم، وما كان لها ذلك إلا بعلو همّة أبنائها الذين حملوا أمانة مجدها إلى المعالي، فأحبهم الله ﷻ، وخلّد التاريخ ذكرهم وسيرتهم إلى يوم القيامة، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح: 29.
ولذلك أخبرنا النبي ﷺ أن: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ» ← صحيح مسلم.
ولنا خير مثلٍ في علو همة صلاح الدين الأيوبي الذي استعاد المقدسات وطهر البلاد من دنس الاحتلال، فعمل واجتهد حتى طهر بيت المقدس من دنس الاحتلال.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
عباد الله: إن علوَّ الهمةَ، أمر يجب أن نغرسه في كل جيل من أجيال الأمة، حتى تبقى شعلة الأمل متّقدة في نفوس أبنائها، فتدافع عن تاريخها وتبني مجدها وحضارتها، وتحافظ على إرثها المجيد، وتتقدم في ركب الحضارة، ويكون ذلك بغرس قيمة العِلم والعمل، فهما الجناحان اللذان تحلق بهما الأمة نحو المعالي، وإخراج جيل قوي أمين يحافظ على المُقدرات ويدافع عنها، يقول ﷻ: (إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص: 26، وأن نُلقن أبناءنا معاني العزّة والكرامة، وأنهم بُناة الغد والمستقبل، فهذا هو مفتاح النجاح لبناء جيل قادر على تحمل المسؤولية والريادة في شتى الميادين.
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
والحمد لله رب العالمين..