ومعكم من جديد يا أحباب، لنقدم لكم خطبة قصيرة مكتوبة بمناسبة مولد النبي محمد ﷺ بعنوان «عزيز عليه ما عنتم». وهي تلك التي نُكمِل بها مجموعتنا الكبيرة من الخُطَب والدروس والمحاضرات والموضوعات والمقالات الكثيرة حول هذه المناسبة الجليلة وعنها.
تأتيكم هذه الخطبة بمناسبة المولد النبوي الشريف؛ والذي يسعى كافَّة الخطباء إلى تقديم أفضل ما لديهم وطرحه وعرضه وإلقاءِه على المُصلين في خُطَب الجمعة؛ بل وفي حلقات العلم ودروس الذِّكر والفِقه.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، مكرم الناس ببعث النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المؤمنين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، من قال عنه ربه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله واهتدوا بهدي نبيه ومصطفاه ﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إن من شأن الوالد أن يكون أكثر الناس رحمة بولده، وأحرصهم على طلب المنفعة له، ويغلب أن الإنسان لا يرجو الخير لأحد أكثر من نفسه إلا لولده؛ فتجده يرجو له مواهب أكثر من مواهبه، وعلما أكثر من علمه، وصحة أكثر من صحته، ومالا أكثر من ماله، ومنصبا أكبر من منصبه، يرجو ذلك كله صادقا من أعماق قلبه غير متكلف أو مكره نفسه على ذلك ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.
وقد قال الله ﷻ في خاتمة آية المواريث ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾. وإن الوالد قد يفعل ما فيه مشقة على ولده من حيث الظاهر، ولكنه يفعل ذلك طلبا للمصلحة لذلك الولد؛ فتجده يلزمه بمذاكرة دروسه أولا بأول وهو يريد أن يلعب، وقد يؤدبه إن وقع منه تقصير والوالد يتألم أكثر مما يتألم الولد.
فالتربية وطلب المصلحة له تقتضي ذلك، ويأخذه إلى الطبيب وتجده يمسكه ليعطيه الطبيب حقنة أو شيئا من العلاج يكون شديدا على النفس، والوالد يجد في نفسه مشقة أكثر من المشقة التي يجدها الولد، ولكن يفعل ذلك طلبا لشفائه وصحته؛ فكانت المصلحة مقدمة على العاطفة.
ولا يشك عاقل – عباد الله – أن الذي يفعله الوالد هو الصواب، وهو الذي ينبغي أن يفعله كل والد رعاية لولده، وقياما على مصلحته؛ فلا يخطر ببال الوالد أن ذلك الذي فعله قسوة، ولا يخطر على الناس إلا أن في ذلك المصلحة والرعاية الواجبة، بل يعيب الإنسان نفسه ويعيبه الناس إن فعل غير ذلك، وذلك شأن الوالد مع ولده، فكيف بشأن النبي ﷺ مع الناس! وهو الذي شهد له ربه بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، وهو الذي يقول خطابا لأتباعه: «أنا لكم مثل الوالد أعلمكم أمر دينكم».
بل إن النبي ﷺ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأحرص على صلاح الناس منهم، واسمعوا إخبار ربكم فيه وشهادته له ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾، يقول ربنا ﷻ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾.
وقد يقع في ذهن طائفة من الناس على جهة الوسوسة أن في أمر الله عباده بهذا الأمر أو نهيه لهم عن كذا عنتا وشدة، وأن في طاعة النبي ﷺ في هذا الأمر أو في ترك هذا الشيء عناء ومشقة، وقد يغيب عن أذهانهم أن السلامة في الدارين تكون في ذلك، والفوز في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بذلك؛ فإن كان فعل الوالد ما يشق على ولده ظاهرا أحيانا مصلحة ونفعا له، فهل يكون ما جاء به النبي من عند الله إلا مصلحة للناس!
بل إن الوالد قد يكون فيما يفعله المصلحة وقد لا تكون؛ ففعله اجتهاد يكون صوابا ويكون خطأ، وأما ما جاء به النبي ﷺ من عند الله فلا يكون إلا مصلحة متحققة وصوابا محضا ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، يقول الحق ﷻ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ | وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا | يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
وهنا أيضًا -يا أكارم- تجدون خطبة جمعة متميزة/قصيرة بمناسبة مولد المصطفى ﷺ.. بعنوان «محبة النبي»
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه أهل الفضيلة والتقوى.
أما بعد، فاتقوا الله – عباد الله -، وانظروا في وصف الله نبيه ﷺ بقوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، فإن في ذلك بيانا ليس من بعده بيان لعظيم حب النبي ﷺ الخير للناس، بل ليس هناك مخلوق يحب الخير لمخلوق كحب النبي ﷺ الخير لنا.
والنبي ﷺ ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾، عنتنا والمشقة علينا أفرادا وأمة؛ فإنه يرجو لكل إنسان أن يكون من المؤمنين الصادقين؛ لينال ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ﴿فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾، ويرجو لأمته أن تكون أمة عزيزة سابقة في كل شيء؛ فإن تقدمها مطلوب في الدنيا والآخرة؛ لتتحقق لها الخيرية التي قال الله فيها: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
وإذا كان الإنسان يحب والديه لفعلهما الخير له وطلبهما مصلحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحق بأن يكون أحب للإنسان من والده وولده والناس أجمعين؛ لأن ما قدمه لنا أكثر مما قدمه لنا كل مخلوق، وطلبه لمصلحتنا في الدنيا والآخرة أعظم من طلب أي مخلوق لمصلحتنا، وحلاوة الإيمان في محبته، وماذا بعد حلاوة الإيمان! يقول النبي ﷺ: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا المختار، محمد، وعلى صحابته الأكارم الأبرار.
وهنا يا إخواني، وبعد أن وصلنا إلى نهاية مقالنا، والذي طرحنا لكم من خلاله خطبة قصيرة مكتوبة بمناسبة مولد النبي محمد ﷺ؛ بعنوان «عزيز عليه ما عنتم». نستطيع الىن أن ندعوكم إلى المزيد حول هذا الموضوع، فنقترح عليكم الاطلاع -كذلك- على خطبة الجمعة عن مولد النبي ﷺ — مكتوبة. والله ﷻ وليّ التوفيق.