وبجانب ما قدمناه من قبل في خطبة بعنوان: صلة الرحم. نوفر لكم اليوم المزيد. وهي خطبة جمعة مكتوبة عن صلة الأرحام. نسوق لكم تعزيز آخر في خطبة مباركة هنا عن نفس الموضوع.
الخطبة -كعادتنا- نوفرها لكم كاملة، محتوية على المقدمة، ثم الخطبة الأولى ثم الثانية، وأخيرًا مع جمْع من الأدعية المبارَكة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، أمر بصلة الأرحام، وجعل في ذلك عظيم الأجر وجزيل الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أوصل الناس وأزكاهم وأرفعهم في المقام، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيام.
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- فمن اتقى علا عند الله، وكان من المخلصين الأنقياء ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
أيها المؤمنون: إن من عظيم مقام الأرحام عند الله أن قرن تقواه بتقوى قطيعتهم؛ فقال في محكم التنزيل: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾، والمراد أن نتقي الله من أن نعصيه، ونتقي الأرحام من أن نقطعها، وانظروا إلى هذا الجمع العجيب نظر المتدبر؛ فإن فيه دلالة على أن حق الأرحام عند الله عظيم، ومقام صلتهم كريم، وأن التقوى لا تحقق مع قطيعة الرحم؛ فالتقوى وقطيعة الرحم لا تجتمعان.
ولذلك رعى إمام المتقين ﷺ هذا الحق، فقال لأرحامه الذين عادوه ونصروا عليه عدوه ولم يؤمنوا به: «غير أن لي بكم رحما سأبلها ببلالها» ولم يقل -ﷺ- سأقطعها، فمن ذا الذي عاداه أرحامه أكثر من معاداة طائفة من قرابة رسول الله لقريبهم رسول الله، ومن ذا الذي آذاه أرحامه أكثر من إيذاء جماعة من أرحام رسول الله لرسول الله، فما قطعهم ولا آذاهم، ولا انتقم منهم ولا عاقبهم، بل وصلهم وقطعوه، وأعطاهم ومنعوه، وأحسن إليهم وأساؤوا إليه.
وإن من العلامات التي استدل بها عبد الله بن سلام على صدق النبي ﷺ وأن وجهه ليس بوجه كذاب، أمره بخصال منها صلة الرحم؛ فقال النبي ﷺ أول ما قال للناس عند وصوله إلى المدينة: «أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»، وهل التأسي به – عباد الله – إلا أن نحمل أنفسنا على قول ما قال من المعروف، وفعل ما فعل من الإحسان، فاستحالت عداوتهم له في كثير من الأحيان إلى نصرة، والكراهية إلى محبة، والقطيعة إلى صلة؛ ليتحقق وعد الله لمن يدفع بالتي هي أحسن؛ فإذا العدو ولي حميم، والكاره محب كريم.
ولله تلك الآيات – التي تنزل على القلب بردا وسلاما – في تصويرها لهذا المعنى الخلقي الرفيع، ولو نقشناها في قلوبنا بأقلام النور لذهب أكثر القطيعة، وكان الناس إخوة متراحمين، وعلى البر متعاونين، متحققا فيهم قول الله ﷻ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، إلا أن هذا المقام مقام الصابرين، مقام ذوي الحظ العظيم، وهل الحظ العظيم إلا أجر الصبر ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾، ولذلك قال الله ﷻ: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم﴾.
يا أيها الذين آمنوا: إن صلة الرحم شيء متأصل في القلب، فهي من الأعمال القلبية، وما نراه من تزاور وتواصل وتهاد بين الأرحام إنما هو من آثار تلك الخلة الكريمة، وتلك الحقيقة القلبية لا يعلمها إلا الله؛ ولذلك قال بعد ذكر تقواه وتقوى قطيعة الرحم: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، وآثار تلك الخلة القلبية تظهر أكثر ما تظهر في الغضب لا في الرضى، وفي الخلاف لا في الوفاق.
فمن كانت صلة الرحم متجذرة في قلبه تجاوز الغضب إلى كظم الغيظ، وانتقل من كظم الغيظ إلى الإحسان؛ ليكون من المتقين الذين استحقوا جنة عرضها السماوات والأرض؛ فكان من ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وإنه من البعد عن منهاج الله وعن هدي رسول الله الذي كان قرآنا يمشي على الأرض أن تكون هناك قطيعة بين والد وولده، أو والدة وولدها، وأخ وأخيه، وقريب وقريبه.
وما أقسى قلوب أولئك الذين يستمرون على هذه القطيعة سنوات طويلة، فكم سمعنا عن قريب قاطع قريبه خمس سنوات أو عشر سنوات أو عشرين سنة ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾، هل هذا إلا إفساد في الأرض ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، وقد قرن الله الإفساد في الأرض بتقطيع الأرحام فقال ﷻ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ | أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ | أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المهتدين التقاة.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن صلة الرحم لها صور متعددة وأشكال متنوعة، أعلاها الزيارة مع الصلة والهدية، وأدناها إرسال السلام للقريب، وفي كل هذه الصور كان لزاما على الإنسان أن ينوي صلة أرحامه، ويكون قلبه منطويا على عدم قطيعتهم؛ فإن «نية المؤمن خير من عمله».
وقد قال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، فمن نوى وصلهم وصله الله، ومن نوى قطعهم قطعه الله، وإن من عظيم حق الأقربين أن جعل الله لهم حقا في المال في الحياة، وحقا في المال بعد الممات؛ فأما حقهم في الحياة فهو الذي ذكره الله في آية البر، وهو غير الزكاة، يقول الله ﷻ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾.
وأما حقهم بعد الممات فالوصية لهم، يقول ربنا ﷻ في سورة البقرة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.
فما أعظم حق الرحم عند الله! والإنسان مأمور بالإحسان إليهم مهما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليس لذلك زمن أو مكان أو حال، بل «من ضاعف ضاعف الله له»، واسمعوا – عباد الله – إلى وصية ربكم؛ فإنه يأمركم فيقول لكم: ﴿وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾.
وقد بشَّر النبي ﷺ أن من أسباب بسط الرزق والبركة في العمر صلة الرحم فقال -في صحيح البخاري– «من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
الدعاء
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.
اللهم أعز الإسلام واهد المسلمين إلى الحق، واجمع كلمتهم على الخير، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.
اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز ولي أمرنا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.
اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لكل من آمن بك، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.