الآن إخواني؛ نقدم لكم هذه الخطبة الوعظيَّة المهمة، والتي غفل عن موضوعها كثير من الناس؛ وهي عن شؤم صفر. فنسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم بالعِلم النافع في الدنيا والآخِرة.
مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله نحمده أحقَّ الحمد وأوفاه، ونستعين به ونبتغي رضاه، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له شهادةً تَقينا من كلِّ شركٍ وبدعةٍ وهوى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بالإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعد: أيها المؤمنون! اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وتمسكوا بالدين الحق المتين، والزموا جماعة المسلمين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران].
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون! إنَّ مدار صلاح العبد وفساده بحسب اعتقاده؛ فمن صلح اعتقاده صلحت حاله، ومن فسد اعتقاده فسدت حاله؛ فإنَّ الاعتقادات منشأ الإرادات، ومن الإرادات تتولد الأعمال في القلب واللسان والجوارح.
فمن صلحت اعتقاداته صلحت إرادته؛ فصلحت أعماله على اختلاف أنواعها.
وإلى ذلك أشار النبي ﷺ بقوله: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
فإنَّ أعظم قوته هي قوته بالإيمان؛ الذي هو أصل الاعتقاد وأُسُّه ومداره؛ فإذا قوى اعتقاده وعظم تعلقه بالله ﷻ كان مؤمنًا قويًا، وإذا ضعف اعتقاده كان مؤمنًا ضعيفًا.
والأعمال تابعةٌ للإرادات، والإرادات تابعةٌ للاعتقادات.
فينبغي أن يجتهد العبد في تقوية إيمانه، وتصحيح اعتقاده؛ امتثالًا لقول الله ﷻ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد]؛ فإنه لا يستقر العلم بها، ولا يكون العبد مخلصًا دينه لله ﷻ حتى يجتهد في تصحيح اعتقاده.
ويرجع تصحيح اعتقاد أحدنا إلى أصلين عظيمين:
- أحدهما: إمداد قلبه بأسباب قوته من التعلق بالله ﷻ؛ محبةً، ورجاءً وخوفًا، وتوكلًا، وإنابةً، واستغاثةً، واستعاذةً، واستعانةً، إلى سائر ذلك من التوجهات القلبية.
- وثانيها: نفي الاعتقادات الفاسدة التي تعتري القلوب فتضعفها وتصدها عن إخلاص دينها لله وعلمها بربها ﷻ.
فينبغي أن يكون المرء مجتهدًا في تصحيح اعتقاده بتقويته بما يقويه – من توكلٍ على الله، وإنابةٍ إليه، واستعانةٍ به، وخضوعٍ له-، وأن يتعاهد نفسه بنفي الاعتقادات الفاسدة؛ لئلا يسري شيءٌ منها إلى قلبه فيفسد عليه اعتقاده.
وما يرجع إلى الأصل الأول هو منثورٌ في الكتاب والسنة، مبينٌ، صالحٌ لكل زمانٍ ومكان، مستقرٌّ فيها لا يتغير.
وأما ثانيها فإنه متجددٌ متعددٌ متغيرٌ؛ فيستجد للناس- مما يفسد عقائدهم- في زمانٍ ما لم يكن في زمانٍ متقدمٍ، وربما خبا شره في زمانٍ، ثم رجع إلى الناس في زمانٍ آخر.
ومن جملة ذلك: ما شاع عند بعض الناس من التشاؤم في شهر صفر؛ فإن من الناس من يراه شهرًا لنزول المصائب وحلول المكاره فيتشاءم منه! ويخاف حلول المكروه فيه!
ويبلغ الأمر أوجه: عندما يحتفل بعض الناس بخروج شهر صفر، ويزعم أنَّ ذلك هو فرجٌ من الله ﷻ؛ إذ خرج هذا الشهر ولم تقع فيه مصيبةٌ!
ويذكرون حديثًا مكذوبًا ينسبونه إلى النبي ﷺ: «من بشرني بخروج صفر فله الجنة»؛ وهو حديثٌ مكذوبٌ لا يصح عنه ﷺ. وشهر صفر كسائر الشهور؛ إنما جعله الله ظرفًا للأحوال والأعمال؛ قال الله ﷻ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة التوبة].
فالشهور هي اثنا عشر شهرًا، ومن جملتها: شهر صفر، وقد جعلها الله ﷻ ظرف زمانٍ؛ لما يكون فيها من الأحوال والأفعال؛ فهي لا تتجاوز هذا الحد، ولا تشتمل على يمنٍ ولا تشاؤمٍ، ولا ينبغي أن يعلق المرء قلبه فيها بحلول مرغوبٍ، أو فرارٍ من مكروهٍ مكروبٍ؛ فإن الأيام هي الأيام؛ وإنما تجعل ظرفًا لما يدخر فيها من حالٍ أو فعالٍ؛ فلا يتجاوز العبد اعتقاده فيها هذا المعنى.
وقد حذر النبي ﷺ من هذا الاعتقاد الجاهلي في شهر صفر؛ فقال ﷺ: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر».
والمراد بـ(النفي): نفي ما كان يعتقد فيه من الاعتقادات الفاسدة أنَّ شهر صفر شهر شؤمٍ، وأنه محلٌّ لنزول المصائب وحلول المكروه بالخلائق.
فينبغي أن ينفي العبد عن نفسه هذا الاعتقاد الذي ينفخ فيه بعض الجهال بتوهمهم وجود هذه المعاني بما يعرض لأحدهم من مصيبة قدرها الله ﷻ في صفر، فإنَّ الذي قدرها في هذا الشهر يقدر غيرها لغيره في شهرٍ آخر؛ فالمصائب والمكاره التي تحل بالناس مقسومةٌ بين هذه الشهور الاثني عشر، وليس لأحدٍ منها خصيصةٌ دون الآخر في كون المصائب والمكاره تحل فيه.
فاجعلوا شهر صفر كسائر الشهور؛ لا يتعلق به شؤمٌ، كما لا يتعلق به يمنٌ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
وهنا -كذلك- نجِد خطبة: حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا حمدًا، والشكر له تواليًا وتترًا، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له؛ فلا معبود حقٌّ سواه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
أما بعد: أيها المؤمنون! إنَّ شهر صفر شهرٌ كسائر الشهور؛ ليس محلًا لليمن، ولا محلًا للتشاؤم، وإنَّ نفي الاعتقادات الفاسدة التي تعتري بعض القلوب فيه هو جملة تصحيح الاعتقاد الذي يتحقق به قول الله ﷻ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر]، وقوله ﷻ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد].
ومن حيي كذلك فإنه يموت كذلك؛ فمن صح اعتقاده في حياته صح اعتقاده في مماته؛ فمن أيقن أنه لا إله إلا الله عالمًا بذلك مات على ذلك، ومن مات على ذلك دخل الجنة؛ كما قال النبي ﷺ: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة»، ولا يموت عالمًا أنه لا إله إلا الله إلا من حيي وهو يعلم أنه لا إله إلا الله.
ومدار نفي الاعتقادات الفاسدة: كمال التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ كما قال الله ﷻ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة التغابن].
فإن الله لما ذكر وحدانيته بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، بين أعظم ما تتحقق به هذه الوحدانية؛ وهو تفويض الأمر إلى الله ﷻ، وإظهار العبد ضعفه له، واعتماده عليه؛ كما قال الله ﷻ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
فتوكلوا على ربكم في حصول مطالبكم، ولا تتخوفوا شيئًا مما نفاه الله ﷻ عنكم ولم يجاوز الله به حده؛ كشهر صفر، الذي هو شهر زمانيُّ، جعله الله محلًّا للأفعال والأحوال.
واجتهدوا في تصحيح اعتقاداتكم، وحفظ إيمانكم؛ فبذلك تسعدوا وتطيب حياتكم في دنياكم وأخراكم.
الدعاء
- اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
- اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.
- اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين.
- اللهم أحينا على لا إله إلا الله، وأمتنا على لا إله إلا الله، واحشرنا جميعًا في حزب لا إله إلا الله.
- اللهم أحينا حياةً سعيدةً، وتوفنا وفاةً حميدةً.
- اللهم أحينا على خير حال، وأمتنا على خير حال، واقلبنا جميعًا إلى خير المآل.
- اللهم فرج كروب المكروبين، ونفس هموم المهمومين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضنا ومرضانا ومرضى المسلمين.
وأقِـم الصلاة..
وبعد؛ فقد قدمنا إليكم إخواني خطبة مكتوبة بعنوان: شؤم صفر. من إلقاء للشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي؛ غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين.