في ضوء الإمعان في حديث النبي «أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم»؛ نسوق إليكم هنا خطبة جمعة مكتوبة كاملة. فأعيرونا القلوب والعقول لننهل من هذه المبارَكة ما شاء الله.
الخطبة الأولى
الحمد لله..
لا يزال المؤمنون يعيشون في هذه الأيام المُعظّمة المباركة من شهر ذي الحجة، نفحات الرحمة من الله ﷻ، وقد تجلّت في عيد الأضحى المبارك اسمى معاني التضحية في سبيل الله ﷻ، وفاضت مظاهر الجود والإحسان بأرقى معاني التكافل والتعاون، والبذل والعطاء، معظّمين بذلك شعائر الله ﷻ الذي هو شعار المتقين، وسبيل المحبين، ومنهاج الطائعين المتبعين لهدي نبيهم الكريم، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
ولا شكّ أن معاني العيد وما فيه مظاهر بهجة وسرور لا بد أن ينعكس على حياة الناس، بل هو فنٌ لا يتقنه إلا أصحاب النفوس الطاهرة الذين تنبع من قلوبهم محبة الآخرين كسيلٍ متدفقٍ يغمر جميع أفراد المجتمع بالسعادة، فالمؤمن كالغيث أينما وقع نفع، وأينما حلّ حلّت معه البِشارة واليُسر والسعادة، وقد كان من وصية النبي ﷺ لأمته: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا» ~ متفق عليه.
فلا تكتمل سعادة المؤمن إلا بالبذل والعطاء، وتعاف نفسه الأنانية وحب الذات، بل يتقرب إلى الله ﷻ بإدخال السرور والسعادة إلى إخوانه وجيرانه والناس أجمعين، يقول النبي ﷺ: «أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ ﷻ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ» المعجم الأوسط للطبراني.
وفي هذا الحديث إشارة ودلالة من النبي ﷺ على كرامة المسلم عند الله ﷻ، فإن أسمى ارتباط وصلة بين المؤمن وبين مولاه هي صلة المحبة، وهي كمال الرضى من الله ﷻ عن العباد، وهي درجة عالية أخبر النبي ﷺ أن من سبل الوصول إليها هو إدخال السعادة والسرور على المؤمنين، وقضاء حاجاتهم، وكشف كرباتهم، وبذلك تكتمل كرامة المؤمنين جميعاً، ويعيش المجتمع في جو من الألفة والمحبة، ويكون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وقد سُئلَ لأحد الحكماء: من أسعُدُ الناس؟ فقال: من أسعَدَ الناس، فسعادة الإنسان بالبذل والعطاء، أعظم من سعادته بالكنز والاستحواذ.
كما يرشدنا الحديث الشريف إلى أن لين الجانب، وإظهار الرحمة والتعاطف مع الناس وجبر خواطرهم من أعظم وسائل إدخال الفرح والسرور، واجتماع القلوب وتآلفها، وقد مدح الله ﷻ نبيه فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.
وتتجسد معاني هذه الرحمة بين المؤمنين بالتأسي بحال النبي ﷺ بين أصحابه، فقد كان ﷺ يسعى في قضاء حاجاتهم، ويعين فقيرهم، ويصفح عن مسيئهم، ويقضي الدين عن مدينهم، وبهذه الصفات العظيمة أقام النبي ﷺ أمةً متحابةً متآلفة، صدق فيها قول الله ﷻ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
عباد الله: إن نوال رضى الله ﷻ بإدخال السرور على قلوب الناس يبلغ أعلى المراتب حين يقترن بالبذل والعطاء المادي والإنفاق في سبيل الله والسعي في حاجات الناس، وتخلي النفس عن شحها وغرورها، ولكن الأمر ليس مقصوراً على بذل عظيم الجهد أو المال، بل يكفي فيه شعور صادق، نابع من قلب تقي نقي، يظهر أثره بابتسامة تريح النفوس، وتفتح مغاليق القلوب، ولنا في سيدنا رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة، فقد كان ﷺ رغم عظيم هيبته، وثِقل أمانته، أحسن الناس خُلقاً وأكثرهم حِلماً، وألينهم جانباً، ينبسط للناس ويضحك تبسماً معهم، وهو ما كان له أعظم الأثر في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، حتى نقلوا لنا ابتسامته وفرحهم بها، فعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ما رأيتُ أحدًا أَكثرَ تبسُّمًا من رسولِ اللَّهِ ﷺ. ~ سنن الترمذي.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ما حَجَبَنِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنْذُ أسْلَمْتُ، ولَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وجْهِي. ~ صحيح البخاري.
لأجل ذلك كان التبسُّم والانبساط للناس صدقة يؤجر عليها المُسلم، يقول النبي ﷺ: «تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة» ~ سنن الترمذي، وقال ﷺ: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق» ~ صحيح مسلم.
ولا تفوتكم هنا أيضًا: خطبة جمعة قصيرة مكتوبة؛ بعنوان: الإنسان والإيمان
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: إن من وسائل إدخال السرور على الناس الإحسان في المعاملة معهم قولاً وفعلاً وذلك من أعظم العبادات والأخلاق التي دعا إليها الإسلام وحث عليها فقال ﷻ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.
فالكلمة الطيبة لها أكبر الأثر في تطييب النفوس، وربما كان الإنسان على حافة اليأس وفقدان الأمل، ثم تُفتح له نوافذ الأمل على شكل كلمات طيبة تجبر خاطره من أخ له، وربما عانى الإنسان من مرارة الحياة وقساوتها، ثم يأتيه التثبيت وبثّ الحياة في روحه من جديد بكلمات صادقة تحمل معاني المحبة والتعاطف من إخوانه، بل إن الكلمة الطيبة لها عظيم الأثر في حلّ الخلافات بين المتخاصمين وترغم أنف إبليس الذي يحاول إيقاع العداوة بين المسلمين، يقول ﷻ: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾.
لأجل ذلك كانت الكلمة الطيبة من الصدقات التي ينال المؤمن أجرها في الدنيا والآخرة، يقول النبي ﷺ: «َالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صدقة» متفق عليه، وقد أرشدنا سبحانه إلى أن توجيه الكلمة الطيبة هو هداية من الله وتوفيق منه يُهديها لعباده الصالحين ليزدادوا تقوى وإيماناً إلى إيمانهم، وليزداد قبولهم ومكانتهم عند الناس كما قبلهم الله ﷻ، قال ﷻ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ﴾.
وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه ينبهنا إلى أهمية تعزيز ثقافة التواصل اللفظي الايجابي بين أبناء المجتمع فيقول: لَوْلَا ثَلَاثٌ لَسَرَّنِي أَنْ أَكُونَ قَدْ مُتُّ: لَوْلَا أَنْ أَضَعَ جَبِينِي لِلَّهِ، وَأُجَالِسَ أَقْوَامًا يَتَلَقَّطُونَ طَيِّبَ الْكَلَامِ كَمَا يُتَلَقَّطُ طَيِّبُ الثَّمَرِ، وَالسَّيْرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﷻ.
وكما قال المتنبي:
لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مال
فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
وإن من أعظم الكلام الطيب الذي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه خاصة ونحن في هذه الأيام المباركة من شهر الله الحرام، المداومة على ذكر الله ﷻ.
والحمد لله رب العالمين.
وختامًا؛ هذه كذلك: خطبة ﴿ورفعنا لك ذكرك﴾ مكتوبة كاملة ومُنقَّحة