خطبة بالتشكيل الكامل: ذكر الله سبيل مرضاته وهداه – مكتوبة

خطبة بالتشكيل الكامل: ذكر الله سبيل مرضاته وهداه - مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحَمْدُ للهِ الَّذِي حَبَّبَ إِلَى المُؤْمِنِينَ الذِّكْرَ، فَبَاتُوا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ وَالجَهْرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى ذِكْرِ اللهِ، وَأَطْمَعُهُمْ فِي عَفْوِهِ وَرِضَاهُ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ، وَصَحَابَتِهِ الأَوْفِيَاءِ العِظَامِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامِ.

الخطبة الأولى

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، وَاعْلَمُوا -يَا عِبَادَ اللهِ- أَنَّ لِلذِّكْرِ فَضْلًا عَظِيمًا، وَأَجْرًا مِنَ اللهِ كَبِيرًا ﴿وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.

وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ -ﷻ- بِالذِّكْرِ الكَثِيرِ حِينَ قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾، وَأَوْضَحَ ﷻ أَنَّ الذِّكْرَ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِهَيْئَةٍ مُعَيَّنَةٍ، إِذْ قَالَ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾، وَحَذَّرَنَا مِمَّا يُلْهِينَا عَنْ ذِكْرِ اللهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾، وَلَمْ تُغْفِلِ السُّنَّةُ المُطَهَّرَةُ الحَثَّ عَلَى الذِّكْرِ، وَالحَضَّ عَلَيْهِ، جَاءَ عَنْهُ ﷺ «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»، وَجَاءَ عَنْهُ ﷺ أَيْضًا: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى»، وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ العِلْمَ بِأَنَّ كُلَّ عَامِلٍ للهِ بِطَاعَةٍ هُوَ ذَاكِرٌ لَهُ؛ إِذْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الذِّكْرَ مَقْصُورٌ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ فَلِلذِّكْرِ صُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَسْتَغِلُّ لِسَانَهُ فِي الطَّاعَةِ؛ كَنَشْرِ العِلْمِ، وَقَوْلِ الصِّدْقِ.

وَالمُسْلِمُ -كَمَا قَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ- مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، فَمَنْ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ لِسَانَهُ فِي الحَقِّ، وَعَلَى أَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ أَذَى لِسَانِهِ وَيَدِهِ هُوَ ذَاكِرٌ للهِ، وَهَكَذَا كُلُّ جَارِحَةٍ يَسْتَعْمِلُهَا المَرْءُ فِي طَاعَةِ اللهِ فَذَلِكَ ذِكْرٌ، فَغَضُّهُ بَصَرَهُ عَنِ الحَرَامِ ذِكْرٌ، وَمَشْيُهُ بِقَدَمَيْهِ إِلى المَسْجِدِ وَحِلَقِ الذِّكْرِ هُوَ ذِكْرٌ، وَصَوْنُ سَمْعِهِ عَنِ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ ذِكْرٌ.

مَعَاشِرَ الذَّاكِرِينَ: إِنَّ مِنَ الذِّكْرِ ذِكْرَ القَلْبِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الإِنْسَانُ بِقَلْبِهِ مِنْ خُشُوعٍ فِي صَلاةٍ ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، أَوْ تَأَمُّلٍ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، أَوْ تَدَبُّرٍ لآيَاتِ الكِتَابِ المُبِينِ ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، بَلْ جُلُوسُ الإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ، وَمُحَاسَبَتُهُ إِيَّاهَا عَلَى تَقْصِيرِهَا هُوَ مِنَ الذِّكْرِ القَلْبِيِّ، رُوِيَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ قَوْلُهُ: “حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ».

وَهَكَذَا يَحْرِصُ الإِنْسَانُ -يَا عِبَادَ اللهِ- عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ كُلَّ جَوَارِحِهِ وَنِعَمِ اللهِ فِي طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَعْدُودٌ -إِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي طَاعَةٍ- فِي صِنْفِ الذّاكِرِينَ، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ، وَأَدْخَلَنَا جَنَّةَ النَّعِيمِ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاعْلَمُوا أَنَّ الذِّكْرَ سَبِيلُ الاطْمِئْنَانِ، وَشِرَاعٌ يَقُودُ الإِنْسَانَ إِلَى مَرَافِئِ الإِيمَانِ.

أقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

⇐ هنا أيضًا: خطبة ﴿ولذكر الله أكبر﴾ مكتوبة كاملة، بالعناصر

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا فِي الذِّكْرِ الرَّاحَةَ وَالأُنْسَ، وَوَقَانَا بِسَبَبِهِ الكَآبَةَ وَضِيقَ النَّفْسِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى ذِكْرِهِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ هَجْرِ كِتَابِهِ وَطَاعَتِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الكِرَامِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الأَنَامِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ثَمَرَاتٍ وَفَوَائِدَ، وَنَتَائِجَ خَيِّرَةً وَعَوَائِدَ، وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّالِحَاتُ شُغْلَ الذَّاكِرِينَ، وَمَحَلَّ اهْتِمَامِ العُلَمَاءِ المُوَفِّينَ، قَالَ أَحَدُ الحُكَمَاءِ: “مَسَاكِينُ أَهْلُ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ: وَمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا؟ قَالَ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ وَذِكْرُهُ”.

وَفِي الذِّكْرِ الأَجْرُ العَظِيمُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِمَنْ ذَكَرَهُ، قَالَ تعَالَى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وَفِيهِ طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وَرَاحَةٌ يَتْرُكُهَا فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾، وَرُوِيَ عَنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَوْلُهُ: “مَا تَلَذَّذَ المُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللهِ ﷻ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الأَعْمَالِ أَخَفَّ مَؤُونَةً مِنْهُ، وَلا أَعْظَمَ لَذَّةً، وَلا أَكْثَرَ فَرْحَةً وَابْتِهَاجًا لِلْقَلْبِ”.

وَفِي الذِّكْرِ -يَا أَيُّهَا الذَّاكِرُونَ- اشْتِغَالٌ عَنِ الحَرَامِ؛ كَالغِيبَةِ الَّتِي ذَمَّهَا اللهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾، وَالنَّمِيمَةِ الَّتِي نَفَّرَ مِنْهَا المُصْطَفَى ﷺ بِقَولِهِ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ»، وَالكَذِبِ الَّذِي جَاءَ عَنْهُ: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ»، بَلْ فِي الذِّكْرِ اشْتِغَالٌ عَنْ سُوءِ القَوْلِ وَالفِعْلِ عُمُومًا؛ فَالنَّفْسُ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالطَّاعَةِ شَغَلَتْكَ بِالمَعْصِيَةِ، وَحَسْبُ الذَّاكِرِ شَرَفًا وَفَضْلًا أَنْ يَذْكُرَهُ اللهُ ﷻ، قَالَ ﷻ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْنُشَمِّرْ عَنْ سَاعِدِ الجِدِّ، وَنَكُنْ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ المَشْغُولِينَ بِاللهِ، الْمَشْغُوفِينَ بِمُنَاجَاتِهِ وَرِضاهُ .

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إمَامِ الْمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدٍ الهَادِي الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

ولا يفوتكم أيضًا ⇐ خطبة عن التسبيح: فضله وأسراره وثمرته – مكتوبة كاملة

أضف تعليق

error: