ومن جَديد إلى جديد وفريد؛ وهنا، ومواكبة للتوقيت وذِكرى الأحداث الدينية في تاريخنا الإسلامي الكبير، نوفر لكم خطبة الأسبوع هذه حول ذِكرى الإسراء والمعراج، تلك التي يكثر الحديث عنها خلال شهر رجب، وتحديدًا في أواخره. لكِني تحديدًا مُقتنع بالرَّأي القائِل بأنه لا يوجد بالسُّنَّة النبوية المشرفة ما يُفيد بتحديد موعد هاتين الحادثتين.
عناصر الخطبة
- الإسراء والمعراج معجزة كبرى وذكرى خالدة في تاريخ الأمة الإسلامية.
- جاءت رحلة الإسراء والمعراج تأييداً من الله ﷻ لنبيه ﷺ ونصرة له وتفريجاً لكرباته.
- ربط عقيدة المسلم بالمسجد الأقصى تتجلى في رحلة الإسراء والمعراج.
- الإسراء والمعراج من محطات اختبار الإيمان ونصرة القدس والأقصى اليوم اختبار لإيمان الأمة والأردن قيادة وشعباً يقوم بواجب ديني منبثق من عقيدته.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد: فإن الله ﷻ قد أيد نبيه محمد ﷺ بمعجزات كثيرة، كان أعظمها القرآن الكريم المعجزة الخالدة، ومنها: انشقاق القمر له ﷺ، وتسبيح الحصا بين يديه، وحنين الجذع له ﷺ.
وإن من أعظم هذه المعجزات، وأهمها في تاريخ الإسلام، هي رحلة الإسراء والمعراج التي جاءت تفريجاً للكرب الذي عاشه رسول الله ﷺ وخاصة بعد أن ازداد أذى قريش له بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها، وبعد ما لاقاه من أذى في الطائف يوم أن خرج من مكة وهو يحمل الأمل في أن يلاقي في الطائف نصرة أو تأييدا لعله يجد من يسمعه، أو من يخفف عنه، فسار ﷺ إلى الطائف، ولم يكن بحسبانه أن تكون معاملتهم أسوأ مما عامله به أهل مكة حيث كان هذا اليوم أقسى يوم مر عليه ﷺ.
فقد سألته زوجه عائشة رضي الله عنها: “يا رسول الله هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم” فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله ﷺ: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا».
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج تأييداً من الله ﷻ ونصرة لنبيه ﷺ وتخفيفاً عليه مما لاقاه من ألم واضطهاد في سبيل دعوته ومكافأة له ﷺ على عبوديته الخالصة التي لا يشوبها أي شائبة من حظ النفس، وهذا ما أكده الله ﷻ في سورة الإسراء بقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، ﴿بعبده﴾، ولم يقل (بنبيه) أو (برسوله) أو حتى (بمحمد)، وإنما وصفه بوصف العبودية، وهو الوصف الأشرف والأجل من بين تلك الأوصاف، أن يكون عبداً لله، لا عبداً لشيء سواه.
إن معجزة الإسراء والمعراج بهذا المعنى كانت بمثابة الإعلان من الله ﷻ أنه متى ما أغلقت أبواب الأرض فتحت أبواب السماء ومتى ما انقطعت النصرة من الأرض جاءت النصرة من الله، فقد كانت فرجاً بعد شدة، والله ﷻ الذي لا يغفل ولا ينام هو مفرج الكروب، فهي بشرى للمضطهدين في كل زمان ومكان أن الذي نصر محمدا ليلة الإسراء والمعراج قادر على أن ينصر أمته في أي وقت وحين.
وقد كانت معجزة الإسراء والمعراج أيضاً امتحاناً لإيمان المؤمنين وهم يعانون من امتحان الناس، فلما أصبح النبي ﷺ وحدّث قومه بما جرى معه في ليلته الماضية، فانقسموا بين مكذب ومصدق ومتردد ومرتد، وتجلى صدق إيمان أبي بكر فقالها قاعدة تعبر عن إيمان المسلمين بالغيب كاشفاً عن جوهر هذا الدين في تسليم الأمر لله ﷻ والانقياد لما جاء به من الحق والهدى: ” إن كان قال فقد صدق”، نعم هذا هو الإيمان المطلق بالله ﷻ وبالرسالة التي جاء بها نبيه ﷺ، لذلك قال فيه النبي ﷺ: “لو وضع إيمان الناس في كفة وإيمان أبي بكر في كفة لرجح إيمان أبي بكر”، وقد استحق أبو بكر رضي الله عنه بهذا النموذج من الإيمان الفريد لقب “الصديق” الذي أصبح وساماً له يحمله على صدره جزاءً له لحسن إيمانه بالله ورسوله.
الخطبة الثانية
الحمد لله..
من الدروس المهمة التي تنبهنا إليها حادثة الإسراء والمعراج هو علاقتنا بالمسجد الأقصى وأنها علاقة دينية.
فهو نهاية مسراه ﷺ ومبتدأ عروجه إلى السماء، وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين التي لا تشد الرحال إلا إليها، ومكان مبارك تتضاعف فيه الحسنات فالركعة فيه بخمسمائة ركعة فيما سواه إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهو مكان مقدس عند كل الأنبياء ونحن الأمة الوحيدة التي تؤمن بكل الأنبياء ﴿لا نفرق بين أحد من رسله وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.
لقد كان من الممكن أن تكون رحلة المعراج من المسجد الحرام إلى السماوات العلى، فقدرة الله لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولكنه تأكيد بعد تأكيد، لصلة الأمة الإسلامية ببيت المقدس، وتوثيق بعد توثيق للروابط الإيمانية بالبلد المقدس والمسجد الأقصى المبارك، فقد ربط الله ﷻ بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى برباط وثيق إلى قيام الساعة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
سريت من حرم ليلا إلى حرم
كما سرى البدر في داج من الظّلم
وبتّ ترقى إلى أن نلت منزلة
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
وكان الفضل من الله ﷻ أن اختصنا لنكون في أرض الرباط بجوار المسجد الأقصى الذي بارك الله ﷻ حوله، فلله الفضل والمنة.
وكان الفضل لله ﷻ ثانياً أن خصّنا بقيادة هاشمية ترعى المسجد الأقصى وتحمي حماه وتجعله في سويداء عيونها، وتسعى بكل عز للذود عن حياضه وتبذل الغالي والنفيس لصيانته والحفاظ عليه، وما هذا الإحياء لذكرى الإسراء والمعراج وحرص قيادتنا على رعايته إلا دليل على حرص الهاشميين على ربط أبناء هذا البلد بعقيدتها والتمسك بثوابتها والحفاظ على مقدساتها، ولتذكير المسلمين بأهمية المسجد الأقصى وأنه في عيون أبناء هذا الوطن الغالي، الذي بذل أبناؤه أرواحهم وأموالهم واستشهد أبطاله من أبناء الجيش العربي على أسواره دفاعاً عنه فارتوت أرض الإسراء والمعراج من دماء الجنود النشامى من أبناء الأردن.
وإننا كمسلمين في هذا الوطن الأشم، نستبشر خيرا ونحن في أرض الحشد والرباط وتحت الراية الهاشمية المباركة بعودة المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) الإسراء: 7.