عناصر الخطبة
- الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمؤمن الفطن هو من عرف حقيقتها، فدفع عن نفسه هذه الابتلاءات بالصبر والثبات والإيمان بالله ﷻ.
- مع كل ابتلاء ومحنة، تتجلى المنح الإلهية، واللطائف الربانية بالعباد، وفي مواجهة هذا الوباء، ظهرت معادن المؤمنين النقية من خلال سلوكياتهم الإيجابية في المجتمع.
- تكاتف أبناء الوطن وتعاونهم، وتواضعهم لخالقهم ﷻ، وشكر نعمة الصحة والمعافاة، والالتزام بالتعليمات، من أهم أسباب رفع البلاء عن الناس.
- كلمة في ذكرى الثورة العربية الكبرى.
الخطبة الأولى
من حكمة الله ﷻ أن جعل هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء، فقال الله ﷻ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت: 3-4، فإذا علم الإنسان حقيقة الدنيا عرف مهمته فيها وهو التسلح بسلاح الإيمان والثقة بالله ﷻ وأن يتعامل مع الظروف والملمّات بأفضل الوسائل والطرق، لينال ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك:2.
ومن حسن تدبير المرء وإحسان عمله أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يحرفه عن وجهته وهدفه في هذه الحياة، فلا يعرض نفسه للأخطار، ولا يدفع بنفسه نحو الابتلاءات والأمراض، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يقول: “اللهم إني أسألك الصبر” فقال «سألت الله البلاء فسله العافية» ← رواه الترمذي. وذلك لأن التعرض للبلاء إنما هو من الذلّ الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرّض من البلاء ما لا يطيق» ← رواه الترمذي.
عباد الله: مع كل ما يمرّ به العالم وبلادنا التي هي جزء منه من صعوبات وجهد واجتهاد في محاربة وباء خطير يهدد البشرية، فإن من رحمة الله ﷻ وتمام منته وفضله، أن جعل مع كل بلاء عطاء، وفي كل محنة منحة، ومع كل عسر يسراً، يقول ابن عطاء الله السكندري: ” اعلم يا عبد الله أن سيدك: ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا امتحنك إلا ليصافيك، ولا أماتك إلا ليحييك، ولا أخرجك إلى هذه الدار إلا لتتأهب منها للقدوم عليه ولتسلك الطريق الموصلة إليه”.
وقد ظهرتّ تجليات رحمة الله ﷻ، ومنحه وأعطياته التي عمّت قلوب المسلمين وديارهم، وظهرت آثارها على سلوكهم وتعاملاتهم الإيجابية في المجتمع.
ففي هذه المحنة يتجلى تعاون الناس فيما بينهم وتعلقهم بربهم ﷻ، وإظهار افتقارهم لعفوه ومعافاته ﷻ، وأنه ﷻ هو القادر على كشف الضرّ على البشر أجمعين، فمهما بلغ الإنسان من قوة وبأس، وظنّ أنه قد ملك الدنيا وما فيها، فإنه يبقى ضعيفاً أمام قدرة الله ﷻ وقوته، والله ﷻ هو الخبير بعباده، الحكيم بطرق علاجهم، قال ﷻ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ الأنعام: 18.
كما يستشعر المسلمون عند وقوع البلاء والوباء نعمة عظيمة من نعمه وهي الصحة والمعافاة، فبها تدوم الحياة وتزدهر وبفقدانها تخبو وتندثر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» ← رواه الترمذي.
ومن عطايا الله ﷻ، ما شهدناه من وقوف أبناء وطننا صفاً واحداً في معركة المواجهة مع هذا الوباء، والله ﷻ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ الصف:4، وليس القتال فقط في ساحات المعارك، فمعركتنا اليوم هي في الحفاظ على النفس البشرية من الهلاك في وباء عمّ العالم أجمع ونشر في أركانه الأسقام، وأُزهقت بسببه الأرواح، ووطنا بفضل الله ﷻ لا يزال بخير وسلامة بتكاتف أبنائه لمواجهة هذا الوباء، وانتشار مظاهر التكافل الاجتماعي المشرّفة التي عمّت وانتشرت بين الناس، فكنّا كما يحب الله ﷻ ورسوله الكريم صلى الله عيه وسلم حين قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» ← متفق عليه.
ومع إغلاق المساجد خلال فترة مواجهتنا لهذا الوباء، يتجلّى عطاء الله لنا بالجلوس مع أبنائنا، وانتشار ثقة الحبّ والمودة، وإقامة الصلاة مع العائلة في المنازل فأصبحت جميع بيوتنا مساجد تُقام فيها الصلوات، وترتفع من سكانها الدعوات، فعمّت به السكينة، وانتشرت فيها الرحمة والمودة.
ومن أهمّ ما اكتسبناه خلال مواجهتنا لهذا الوباء الخطير، هو انتشار القيم الأصيلة بين أبناء المجتمع، والعودة إلى الهدي الصحيح السليم الذي جاء به الإسلام كالمحافظة على النظافة والطهارة وعدم مخالطة الناس في حال المرض، والحرص على الانضباط والترتيب في جميع شؤون حياتنا، فما جاءت به التعليمات التي تقينا من انتشار المرض بين الناس، هي تعليمات أصيلة جاء به الشرع الحنيف، كما اختفت وتلاشت بعض العادات والتقاليد التي كانت تثقل كاهل المواطن، كالإسراف والتبذير في المناسبات الاجتماعية.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله: ونحن نتنسم في هذه الأيام نفحات ذكرى الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي رحمه الله، التي كانت ثورة على الجهل والظلم التي خيمت على الأمة العربية مدة من الزمن، حتى جاءت الثورة العربية الكبرى المباركة في سبيل تخليص الأمة من قيودها، وشقّ طريق نهضتها ورفعة الأوطان وأبناء الأمة العربية والإسلامية جميعاً، وإعلاءً لكرامة الإنسان، في شتى المجالات، فإن مهمتنا اليوم أن نحافظ على مبادئ هذه الثورة المباركة والسير على خطاها، لتكون حافزاً لنا، وضياءً نهتدي به للمحافظة على مكتسباتها ببناء مجتمع واعٍ قادر على تحمل المسؤولية، ملتزم بالتعليمات التي تصدر عن الجهات المعنية ليبقى هذا المجتمع قوياً متماسكاً.
والحمد لله ربّ العالمين..