هلا لاحظت وصف “خطب تمس الواقع”؟ نعم، هذه أحد نوعيَّة وتصنيف هذا الوصف. وهي تُبحر في قول رسولنا المصطفى ﷺ «خيركم خيركم لأهله». هذا الحديث، الذي ساق لنا حبيبنا فيه –وفي كثير غيره– الكثير من النصائِح والإرشادات لحياة زوجية وأُسرية وعائليَّة سعيدة، هادئة ومُستقرة؛ وتتَّبع منهجه ﷺ.
عناصر الخطبة
- الإحسان إلى الزوجة والأهل من أفضل القربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه.
- على المسلم الاقتداء بهدي نبيه ﷺ القائم على اللين والرحمة والتغاضي عن الزلات والهفوات في التعامل من أهل بيته.
- من أعظم المحرمات على الإنسان أن يضيع أهل بيته وأسرته.
الخطبة الأولى
الحمد لله..
من مظاهر رحمة الله ﷻ أن بعث فينا سيدنا محمد ﷺ رحمة للعالمين يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، ونبياً هادياً إلى الطريق المستقيم الذي يرضاه الله ﷻ، قال ﷻ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 151، وقد جعله الله ﷻ لنا القدوة الحسنة، قال ﷻ: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾، فقد تمثلت كل ألوان الحياة وأطيافها في شخص رسول الله ﷺ، فالباحث عن القدوة والمثل الأعلى يَجده متمثلاً في رسول الله ﷺ، فقد كان ﷺ القدوة والأسوة الحسنة، فهو النبي الصالح، والأب المربي، والصديق الوفي، والزوج المحب.
لقد ضرب لنا رسول الله ﷺ أروع الأمثلة في التعامل مع أهل بيته ﷺ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»، فهذا الحديث دليل عظيم على المحاسن التي جاء بها الإسلام ودعا إليها، ومن جملتها أنه جعل الإحسان إلى الزوجة والعيال من أفضل الأعمال والقربات، وفاعله من خيرة الناس، ولم يكن النبي ﷺ داعياً إلى هذه المُثُل فقط، بل طبقها على نفسه عليه الصلاة والسلام خير تطبيق، فقد تجلت علاقته ﷺ مع أهل بيته في أبهى صورها فكان النبي ﷺ يباشر خدمة أهل بيته بنفسه، ولم يمنعه هم الدعوة وحمل الأمانة ورعاية الأمة من أن يكون على تواصل مستمر مع أهل بيته والعناية بهم، والاطلاع على أحوالهم، ومباشرتها بنفسه ﷺ.
وقد سأل رجل عائشة: أكان رسول الله ﷺ يعمل في بيته؟ قالت: «نعم كان رسول الله ﷺ يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته» مسند أحمد، فكان ﷺ في خدمة أهله يشاركهم أعمال المنزل ولا يلقي على عاتقهن كل الأعباء، فلم تكن مسؤولياته الجسام تمنعه من أن يكون عوناً لأهله، فعن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت ماذا كان يفعل ﷺ في بيته، قالت: «كان يكون في مهنة أهله –أي: خدمة أهله– فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة».
كما كان –عليه الصلاة والسلام– يُمازِح نساءه ويُلاطفهن، ويقابلهن بوجه بشوش، فعن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت مع النبي ﷺ في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك السبقة»، وتقول رضي الله عنها: “كنت أشرب فأناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع فاه على موضع فيّ، وأتعرق العرق فيضع فاه على موضع فيّ”.
ومن هنا نفهم أنّ الرجولة والقوامة لا تعني أن يترفع الرجل عن مساعدة زوجته والاهتمام بشؤونها، فإذا كان نبي الأمة عليه الصلاة والسلام لا يأنف عن مساعدة أهله في بيته، فعلى أمته الاقتداء بهديه ﷺ.
وهذا نبيّنا عليه الصلاة والسلام قد شارك زوجاته اهتماماتهنّ، ودعم مشاركتهن في مختلف الميادين، وأجاب عن أسئلتهن وتفاعل مع مشورتهن في أكثر الظروف خطورة، وبالمقابل فقد أظهرت أمهات المؤمنين رجاحة العقل وحُسن المشورة عند إبداء الرأي، فهذه أم المؤمنين أم سلمة، يستشيرها النبي ﷺ، وقد دخل الهم والحُزن إلى قلبه عندما أمر الناس أن يذبحوا هديهم ويحلقوا رؤوسهم يوم صلح الحديبية، فلم يستجيبوا له، فأشارت عليه أم سلم، بقولها: « اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا» صحيح البخاري.
فكان هذا الرأي سبباً في نزع فتيل الأزمة التي دارت بين الصحابة رضي الله عنهم، لهذا فإن النبي ﷺ كان يشارك نسائه حياته في السفر والحضر، ويتسابق معهم، ويحضرن الفعاليات المتنوعة في مسجده الشريف وفي مدينته الغراء، ومع الهموم المتنوعة لا يرى أهل بيته إلاّ الابتسامة والبِشر، فعن عائشة رضي الله عنها أيضا أنها: سئلت كيف كان رسول الله ﷺ إذا خلا في بيته، فقالت: «كان ألين الناس وأكرم الناس كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحَّاكاً بسَّاماً».
فما أحوجنا أن نتمثل أخلاق النبي ﷺ مع أهل بيته وأسرته، وبالأخص في هذا العصر الذي تطالعنا فيه الدراسات باستمرار عن ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع.
خاصة إذا علمنا أن النبي ﷺ كان في تعامله مع أهله يغفر الزلات ولا يتتبع الهفوات، فكان لا يؤذي ولا يجرح مشاعر أهل، فلم يضرب ولم يصخب بقول ولا فعل، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، لا والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي: أف قط، ولا قال لي: لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته» مسند أحمد، بل كان يتغاضى عن الزلات ولا يظهر اللوم.
وكذلك في حالة وقوع الخطأ من نسائه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، كان ﷺ، يغلب حلمه ورفقه وأخلاقه العظيمة على غضبه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصُحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبي ﷺ في بيتها يد الخادم فسقطت الصُّحْفَة فانفلقت، فجمع النبي ﷺ فلق الصُّحْفَة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصُّحْفَة ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتى بصُحْفَة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصُّحْفَة الصحيحة إلى التي كُسرت صُحْفَتُها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسرت.
فانظروا إلى ردة فعل حبيبنا وقدوتنا ﷺ في هذا الموقف؟ لم يعتبر هذا التصرف قضية تُحرجه أمام ضيوفه، ولم يؤنب زوجته ولم يسمعها سلسلة من كلمات العقاب وعبارات التوبيخ، بل تعامل معها بخُلقه النبوي الرفيع، حتى يكون قدوة لمن لجميع المؤمنين فعالج ﷺ الأمر بحكمته ورحمته وبلين جانبه، وهو ﷺ القائل: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» صحيح مسلم، وقد قال الشاعر:
إذا كُنتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتِباً
صَديقكَ لَمْ تَلقَ الذي لا تُعاتِبُه
فَعِشْ واحِداً أو صِلْ أخاكَ فإنَّهُ
مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً ومُجانِبُه
إذا أنتَ لَمْ تَشرَبْ مِراراً على القَذى
ظمئت وأيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
وقد راعى النبي ﷺ نفسية زوجته وسبب خطئها فيقول لأصحابه: «غارت أمكم»، فهِم بشريّتها فقال: “غارت”، وألزم صحابته احترامها وتقديرها فقال: “أمّكم”، فسبحان الله الذي خَلَقه وبالخُلُق العظيم كمَّلَه، وصدق الله حين وصف نبيه ﷺ بأنه على خلق عظيم، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾، وصدق الله حينما قال عنه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾.
ومشهد آخر تبرز فيه براعة المصطفى ﷺ في حل مشاكل الأسرة؛ فعن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة، قالت لها: ابنة يهودي، فدخل عليها النبي ﷺ وهي تبكي، فقال ﷺ: «وما يبكيك؟»، قالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي ﷺ: «إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فَبِمَ تفخر عليك؟» ثم قال ﷺ: «اتقِ الله يا حفصة»، فقال لها النبي ﷺ بضع كلمات ضمدت جرحها وجبرت خاطرها، قال: «إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فَبِمَ تفخر عليك؟» والتفت النبي ﷺ إلى حفصة وقال لها: «اتقِ الله يا حفصة».
فلنتعلم كيف عالج النبي ﷺ الموقف بكلمات معدودات رأب فيها الصدع، وهدَّأ النفس، وذكَّر المخطئ، وطيب خاطر التي أسيء إليها، وأقام لنا الميزان في علاقاتنا الأسرية عليه الصلاة والسلام فها هو يقول: «لا يفرك [أي: لا يبغض] مؤمن مؤمنةً إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر».
كما جعل النبي ﷺ أفضل النفقة التي ينفقها المرء على أهله وعياله؛ بل عد النبي ﷺ اللقمة يضعها الرجل في في زوجته صدقة فقال ﷺ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ».
ومن أعظم الإثم أن يضيِّع الإنسان زوجته ومن يعول، فقال ﷺ:«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ».
هذه أيضًا: خطبة عن أسباب السعادة الزوجية
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
لقد عدّ القرآن الرابطة الأسرية من أهم الروابط، واعتنى بها عناية كبيرة، فقال ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
ولقد علّمنا النبي ﷺ أن بيت المودة لا يبنى على أعمدة الفظاظة وسقف الجفاء، وإنما يُشَيَّدُ بالكلمة الطيبة، والخُلُق الحسن، والإعذار الدائم، فعلى المسلم أن يتقي الله أهل بيته، فيرحم صغيرهم، ويعين كبيرهم، وعلى الزوج أن يحسن معاشرة زوجته، وكذلك على الزوجة أن تحسن معاشرة زوجها وأبنائها وأهل بيتها، فقول النبي ﷺ، «خيركم خيركم لأهله» ينطبق عليها كما ينطبق على الزوج واستقرار البيوت وقلة الخلافات والنزاعات هي من واجب الزوجين معاً يقول النبي ﷺ: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، وكلكم راع ومسئول عن رعيته».
فعلى الزوجين والأبناء أن يتكاتفوا معاً لتحقيق سعادة الأسرة ونشر روح الألفة والمودة التي يريدها الله ﷻ كما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وفي آيةٍ أخرى يقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾.
والحمد لله رب العالمين..
وبعد ما وجدتموه في هذه الخطبة المنبريَّة المباركة؛ هذه أيضًا خطبة عن المشاكل الزوجية.. تحت عنوان «وجعل بينكم مودة ورحمة»