واليوم نأتيكم لنصحبكم مع هذه المنبرية المباركة؛ وهي خطبة عن خلق الحياء.. الذي لا يأتي إلا بخير. فسوف نقدم لكم هذه الخطبة ليوم الجمعة؛ مكتوبة، مشكولة، كاملة؛ جاهزة للطباعة أو الحِفظ أو الاطلاع المباشِر أو المشاركة مع الزملاء من الخطباء في شتى البقاع الإسلاميَّة؛ لكل المنابر. بل ويُمكِن توجيه العوام إليها ليجدوا فيها من الخير الكثير والوعظ الحسن الجزيل.
ولا عجب في إعدادنا وتوفيرنا لهذه الخطبة الجميلة؛ فالخطباء الأكارم يسألون كثيرًا عن خطب عن الحياء من الناس، أو حول خلق الحياء عند الأنبياء الصالحين.. وغيرها من العناوين والموضوعات التي يريدون التحضير لها؛ سواءً كانت خطبة جمعة، أو محاضرة عامة، أو درس علم، أو حتى كلمة للإذاعة المدرسية.. الخ.
مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الكَرِيمِ، وَاصِفِ نَبِيِّهِ بِقَولِهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَشَدُّ النَّاسِ حَيَاءً، وَأَكْثَرُهُمْ حِلْمًا وَأَعْظَمُهُمْ وَفَاءً، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ ذَوِي الخُلُقِ الكَرِيمِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ فَمَنِ اتَّقَى ارْتَفَعَتْ دَرَجَاتُهُ، وَضُوعِفَتْ حَسَنَاتُهُ، وَكُفِّرَتْ عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾.
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللهِ: إِنَّهُ لَمِمَّا يَجْدُرُ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَنْظُرَ نَظَرَ العَاقِلِ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ».
فَمَا مَعْنَى الحَيَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ بِهَذَا الذِّكْرِ الحَسَنِ؟ ولِمَ خَصَّ النَّبِيُّ الكَرِيمُ الحَيَاءَ بِالذِّكْرِ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ؟ الحَيَاءُ -أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ- صِفَةٌ قَلْبِيَّةٌ فَطَرَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا؛ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ فِيهِ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.
وَالحَيَاءُ مَعْنَاهُ “انْقِبَاضُ النَّفْسِ عَنْ شَيْءٍ وَتَرْكُهُ حَذَرًا مِنَ اللَّوْمِ فِيهِ، وَالحَيَاءُ خُلُقٌ يَبْعَثُ صَاحِبَهُ عَلَى اجْتِنَابِ القَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الحَقِّ “، فَالحَيَاءُ إِذَنْ هُوَ المُحَرِّكُ الَّذِي يُحَرِّكُ الإِنْسَانَ إِلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ وَكَمَالٍ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ الانْتِكَاسِ فِي الرَّذَائِلِ وَالنَّقْصِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مَحْمُودًا كُلَّ هَذَا الحَمْدِ فِي الشَّرِيعَةِ الغَرَّاءِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَفِي الأَثَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ ﷺ الحَيَاءَ بِالذِّكْرِ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ؛ لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ لابِسَهُ عَلَى الشُّعَبِ الأُخْرَى؛ فَتَجِدُ الحَيِيَّ مِنَ النَّاسِ، ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، يَأْتِي كُلَّ خَيْرٍ وَيَفْعَلُ كُلَّ مَعْرُوفٍ مُنْتَظِمًا فِي سِلْكِ المُسَارِعِينَ، وَدَاخِلًا فِي السَّابِقِينَ السَّابِقِينَ، وَمُنْتَهِيًا عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَمُجْتَنِبًا كُلَّ مُنْكَرٍ، وَإِذَا غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَوَقَعَ فِي الخَطَأِ سَارَعَ إِلَى الإِنَابَةِ، وَتَابَ إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا؛ وَمِنْ هَذَا كَانَ “الحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ“، بَلْ إِنَّ الحَيَاءَ “هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ”.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
وَالحَيَاءُ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَقَدْ قَالَ الحَقُّ ﷻ: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾.
وَفِي الأَثَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الحَيَاءُ».
وَالحَيَاءُ – عِبَادَ اللهِ – يَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ وَمِنَ المَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ الحَيَاءُ مِنَ المَرْأَةِ زِيْنَةً، فَإِنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ كَمَالٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ النَّاسِ حَيَاءً؛ فَقَدْ “كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا”، وَمِنْ حَيَائِهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ -إِنْ كَرِهَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ- لا يُصَرِّحُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، بَلْ إِنَّ النَّاسَ يَعْرِفُونَ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَمْرٍ خَاطِئٍ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مَنْ وَقَعَ فِيهِ، بَلْ كَانَ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا!».
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ صُورَةً مِنْ حَيَاءِ النَّبِيِّ ﷺ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ، فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَدْخُلُونَ بَيْتَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَيُطِيلُونَ الجُلُوسَ وَالحَدِيثَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَتَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ تِلْكَ الأَوْقَاتَ كَانَتْ خَاصَّةً بِهِ وَبِأَهْلِهِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ وَقْتًا يَجْلِسُ لَهُمْ فِيهِ في المَسْجِدِ، فَيَسْأَلُهُ السَّائِلُ، وَيَتَحَدَّثُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَدَّثَ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ النَّاسُ.
فَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ لأُولَئِكَ الدَّاخِلِينَ فِي بَيْتِهِ اخْرُجُوا أَوْ قُومُوا مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، حَتَّى تَنَزَّلَ القُرْآنُ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَعْتِبُ عَلَيْهِمْ قَائِلًا لَهُمْ: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾.
أَقولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.
وهذه خطبة جمعة قصيرة مكتوبة مؤثرة جدا.. بعنوان: الابتلاء بالأعداء
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْنَنْظُرْ كَيْفَ أَنَّ حَيَاءَ تِلْكَ المَرْأَةِ الَّتِي جَاءَتْ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ طَرَفِ أَبِيهَا كَانَ سَبَبًا فِي ذِكْرِهَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهَا بِحَيَائِهَا لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاسْتَحَقَّتْ تِلْكَ المَنْزِلَةَ الكَرِيمَةَ حَتَّى قِيلَ إِنَّهَا هِيَ المَرْأَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ زَوْجَةً لِنَبِيِّهِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الأُخْتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ، وَفِي ذِكْرِهَا يَقُولُ اللهُ ﷻ: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، فَكَانَتْ مَثَلًا لِلنِّسَاءِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
وَقَدْ يَسْأَلُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَنْ صِفَةِ الحَيَاءِ كَيْفَ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ؟ وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَجَعَلَ لِلْحَيَاءِ مِيزَانًا يَعْرِفُ بِهِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَأْنِ الحَيِيِّ أَنَّهُ فِي خَلْوَتِهِ لا يَفْعَلُ شَيْئًا يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ يَفْعَلُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَا كَرِهْتَ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ فَلا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ».
وَمِنْ عَلامَاتِ المُسْتَحْيِي أَنَّهُ لا يُرَى بِمَوْضِعٍ يُسْتَحْيَى مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الحَيَاءُ مَانِعًا مِنَ الوُقُوعِ فِي الخَطِيئَةِ أَوِ النَّقِيصَةِ، فَإِنَّ الخَجَلَ يَكُونُ بَعْدَ الوُقُوعِ فِيهَا وَانْكِشَافِ الأَمْرِ خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ المَنْزِلَةِ؛ فَالخَجَلُ مِمَّا كَانَ، وَالحَيَاءُ مِمَّا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ فَعَلَيْهِ بِالحَيَاءِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ سُنَنِهِمْ وَأَكْرَمِ سَجَايَاهُمْ ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وإلى هنا -إخواني الخطباء- وصلنا إلى نهاية صفحتنا هذه؛ والتي قدَّمنا لكم من خلالها خطبة عن خلق الحياء، مكتوبة ومشكولة بالكامِل. وكتوصية أخيرة، فهذه خطبة عن كرم الله في عفوه وعطائه. نسأل الله ﷻ أن يكرمنا وإياكم بالتحلي بكل جميل وخير.