مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأمر عباده بالتفكر في هذا الخلق العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أحسن المتفكرين، وسيد المتدبرين، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، فإن في التقوى صلاح العمل ومغفرة الذنب وطريق الفوز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: إن التأمل في أنفسنا دعوة إلهية، ونعمة ربانية من بها ربنا ﷻ علينا، فعندما ننظر في أجسادنا مثلا، نجد أن كل عضو يعمل بتناغم مع الآخر، في نظام بديع يدلنا على عظمة الخالق المصور الذي برأ وأبدع وأنشأ، يقول جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فهلا تأمل الإنسان في دقائق صنعه؟! فنظر في كيفية تنفسه، وأمعن في دقات قلبه، وأعمل فكره في عمل عينه وأذنه، فإن هذه النعم وغيرها دليل قاطع على وجود خالقه ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾.
أيها المسلمون: لا غرابة أن يكون التناغم الحي في نفس الإنسان دليلا على خالقه ﷻ، ولذا فإننا نجد المولى الصانع القدير يوجه العباد إلى النظر في أنفسهم، يقول ﷻ: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، بل دعا إلى النظر في أجزاء الجسم وجمال صنعها وحسن عملها: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ﴾، وليس هذا محصورا في الأعضاء البارزة أو الظاهرة، بل حتى مشاعر الإنسان وأحاسيسه دلائل على عظمة الله وصنعه المتقن، فشعورك أيها المؤمن بالحب، والرحمة، والفرح، والحزن ليس أمرا عابرا لا أصل له، إنما هو هبة الله في قلبك التي تعكس عظمته ورحمته بنا.
والنبي ﷺ يبين جزءا من هذا المعنى في المرأة التي فقدت طفلها ثم وجدته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي ﷺ لأصحابه: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قالوا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها»، وفي صفة الجمال وما يخالطها من مشاعر محببة إلى النفس البشرية إنما هي من الله تعالى، يقول النبي ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال»، كل ذلك ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، ولا تكونوا كالذين ينظرون ولا يتفكرون، ويسمعون ولا يعون: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهذه ⇐ خطبة الجمعة لهذا الأسبوع: التذكير بخلق الإنسان
الخطبة الثانية
الحمد لله الخالق المصور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، ﷺ وعلى آله المهتدين بهديه إلى يوم العرض.
أما بعد، فيا عباد الله: إن التفكر حقا في مخلوقات الله، من النفس التي نحملها إلى الكون البديع الذي يحيط بنا، يشعل جذوة الإيمان في القلوب، ويقود المؤمن إلى الاعتراف بالله علام الغيوب، وإن شئت فانظر في عتابه جل وعلا للقوم الذين لا يتفكرون، يقول سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، فلنجعل من التفكر عبادة نحافظ عليها تعزيزا للإيمان، ودليلا يعرفنا بالرؤوف المنان، فقد امتدح الله تعالى أصحاب هذه العبادة فقال جل شأنه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، ولا تظلموا أنفسكم بالتغافل عن خالقكم: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.