طلب مِنّا أحد الإخوة خطبة جمعة عن خطر الفتوى بغير علم. حينها توقفت للحظات بسيطة، لأُدرك مدى أهمية هذه الخطبة على الأُمة الإسلامية جميعا. فما أخطر هذا الأمر الذي يجعل من الحلال حرامًا ومن الحرام حلال ويُفتي ويؤوّل ويُفسِّر بلا علم أو دراسة أو دراية بأصول الفقة والإفتاء.
بالطبع قد تكون طلبات الخطباء الأكارم لهذه الخطبة بعناوين مختلفة؛ مثل: الفتوى بغير علم وأثرها في الأمة – الفتوى بغير علم من كبائر الذنوب – خطبة التحذير من الفتوى بغير علم.. وغيرها من العناوين متقاربة المعنى.
من هذا المنطلق تأتي أهمية خطبة اليوم؛ خطبة عن خطورة الفتوى بغير علم. والتي ألقاها معالي الشيخ ا.د سامي بن محمد الصقير؛ جزاه الله خيرا.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله ﷻ بين يدي الساعةِ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا.
فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرا.
الخطبة الأولى
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وتفقهوا في دين الله لتعبدوا الله ﷻ على بصيرة فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
عباد الله تفقهوا في دين الله
فالفقه في الدين هو أساس الخير والعمل الصالح. بالفقه في الدين يعرف العبد كيف يعبد ربه، وبه يعرف كيف يسير إلى ربه في نور العلم إذا انعقد غيوم الجهل والفتن. وبه يكون العبد سراجًا في أمته يهديهم الصراط المستقيم، ويبين لهم المنهج القويم.
مكانة العلم والعالِم
بالعلم يستنير العبد في حياته وبعد وفاته، فالعالم حي بعد مماته، والجاهل ميت في حياته ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾.
وقال النبي ﷺ «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم ينتفع به» يعني من بعده «أو ولدٌ صالح يدعو له».
فاسألوا أهل الذكر
أيها المسلمون إن من طرق تحصيل العلم السؤال ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فأمر الله ﷻ من جهل شيئًا أن يتعلمه، ويطلب العلم به من مضانة، وأن يسأل أهل الذكر العالمين به.
كما أمر أهل العلم بالإيضاح والبيان، وتوعدهم على الخفاء والكتمان ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾.
وقال ﷻ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾.
وبما أن أهل العلم هم المرجع في البيان لعامة الناس فإن الإقدام على التعليم والإفتاء إنما يتصدى له من كان أهلا لذلك.
وإن مقام الإفتاء مقامٌ عظيم تولاه رب العالمين، قال الله ﷻ ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾.
وقال ﷻ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾.
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين محمد ﷺ فكان عن الله بوحيه المبين، ثم قام بالفتوى بعده الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان.
التحليل والتحريم حق لله
أيها المسلمون إن التحليل والتحريم حق لله، حق لله ﷻ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾.
وقال ﷻ ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
وقال ﷻ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ | وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾.
خطورة الفتوى بغير علم
عباد الله إن من أعظم الجنايات أن يتصدر المرء للخوض في دين الله تحليلا وتحريمًا من غير علم ولا بصيرة.
وهذا مع كونه جناية عظمى ففيه سوء أدب مع الله ﷻ حيث تقدم بين يديه، وقال في دينه وشريعته ما لا يعلم.
ولقد تجرأ على الفتوى في زمننا، تجرأ على الفتوى من لا علم عنده من المتعالمين فتجاسروا على التحليل والتحريم يتكلمون بما لا يعلمون، ويجملون لا يفصلون، وهم من أجهل الناس بأحكام الشريعة.
قصر في باب العلم باعهم وقل نظرهم واطلاعهم، يخوضون في نوازل عامة وقضايا حاسمة وهامة.
يأتون بما يخالف الشريعة الغراء ويقولون باسم الإسلام ما الإسلام منه براء.
إذا سمعت أحدهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي من السماء من جزمه فيما يقول، ومجادلته فيما يخالف المنقول والمعقول.
بل قد وصل الحال ببعض العوام أن يفتي بعضهم بعضا، وأصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعال.
فاستطالوا على منازل العلماء ومقامات العظماء والفقهاء، وعمدوا إلى أمور هي من قواعد الدين وثوابته، وجعلوها عرضة للتبديل والتغيير بدعوى تغير الفتوى بتغير الزمان.
بل طالبوا بالأخذ بالرخص للتفلت من الأحكام وكثر منهم التحايل على الأحكام الشرعية وقواعد الإسلام.
أيها العلماء تصدوا لمن يفتي بغير علم
وإن الواجب، إن الواجب على ولاة الأمر والعلماء الأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء الجهلاء حفظًا للشريعة ودفاعًا عنها وتوحيدًا لكلمة الأمة، وضبطًا مسلكها ومنهجها لتكون مبنية على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
اللهم اعصمنا من الزلل، واحفظنا من الشر والخطر، ووفقنا لصواب القول والعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، وثبتنا وإياكم على الحق والإيمان.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
وهنا تجِد: خطبة عن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد ببرهانه، الداعي إلى جنته ورضوانه -صلى الله عليه- وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرا.
تقوى الله أربح بضاعة
أما بعد فيا أيها المسلمون اتقوا الله ﷻ فتقوى الله أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه.
عباد الله إن من العقل، وإن من الإيمان، وإن من تقوى الله ﷻ وتعظيمه أن يقول الإنسان عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري فإن ذلك من تمام العقل لأن الناس إذا عرفوا منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه.
وإن ذلك أيضًا من تمام الإيمان، ومن تقوى الله ﷻ حيث لا يتقدم بين يدي الله، ولا يقول في دين الله ما لا يعلم.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: أيها الناس من سئل عن علم يعلمه، فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم.
لا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله ﷻ ولا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا رحى الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم الله بذلك ﷻ فقال جل من قائل عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
تجدون -كذلك- هنا: خطب جمعة جاهزة ومكتوبة بواسطة أكابر علماء الخطابة
الدعاء
- اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد.
- اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء.
- وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي هم أفضل اتباع المرسلين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وجودك يا رب العالمين.
- اللهم أعِز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
- اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
- اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهِ للبر والتقوى.
- اللهم انصر جنودنا واحفظ حدودنا.
- اللهم من أراد بنا وببلادنا وعقيدتنا وقيادتنا سوءا فاجعل كيده في نحره، وفرق جمعه، وشتت شمله، واهزم جنده، واجعل تدميره في تدبيره يا سميع الدعاء، يا ذا المن والعطاء، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
- اللهم ارفع عنا البلاء، اللهم ارفع عنا الوباء.
- اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
- اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
- ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
- ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وختامًا أترككم مع خطبة: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن