ونستمر في سرد خطب الجمعة المبارَكة؛ واليوم مع خطبة: خصائص أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومقومات خيريتها. والتي نسوق لكم من خلالها الكثير من الجوانب والنِقاط حول هذا الموضوع بشكل مُدقَّق ومُنظَّم.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين؛ القائِل في محكم التنزيل ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
أشهد أن لا إله إلا الله، وليّ المتقين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي قال له أحكم الحاكمين ﷻ ﴿إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك﴾.
الخطبة الأولى
أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، إنها أمة سيدنا محمد ﷺ خاتم النبيين الذي أنزل الله عليه القرآن الكريم، وأمر هذه الأمة بالحفاظ على مكانتها بين الأمم، تحمل رسالة الإسلام في الدعوة إلى الله ﷻ، ونشر الأخلاق الفاضلة بين الناس لنشر هذه الرسالة العالمية العظيمة.
لقد رفع الله ﷻ شأن أمة الإسلام وجعل لها شرفاً رفيعاً، وكرامةً عظيمة عند الله ﷻ، فهي ليست أمة عابرة في تاريخ الحضارات ولدت كغيرها من الأمم ثم مصيرها إلى الاندثار، ولم تنتج بسبب ظروف تاريخية أو تجمعات قبلية، أو تحالفات سياسية، بل هي أمّة ربانية، أخرجها الله ﷻ لتحمل ميراث الأنبياء والمرسلين؛ لتكون خير أمةٍ بُعثت هدايةً ورحمةً للعالمين، يقول ﷻ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
وقد خصّ الله ﷻ أمة الإسلام بأن جعل فيها المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة، القرآن الكريم، حبل الله المتين، وميزانه القويم، وصراطه المستقيم، يقول ﷻ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
وبذلك كانت رسالة الإسلام رسالةً عالمية في الدعوة إلى الله ﷻ، ونشر الفضيلة، والأخلاق الفاضلة بين الناس، فكانت خيريتها مكتسبة من أداء مهمتها في هذه الحياة، وهذه المهمة الجليلة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ﷻ، فكفى بالمرء شرفا أن يكون دالاً على الله، وجامعاً للخلق على الحق ﷻ، داعياً إلى الخير، وحفظ الدماء، وصيانة الأعراض، وتأمين المجتمعات، وحراسة الممتلكات، يقول الله ﷻ:﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
ومن خصائص الأمة الإسلامية أنها أمة الاعتدال في كل مناحي الحياة ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس﴾. ومقتضى كونها أمة الاعتدال فإنها أمة تنبذ العنف والتطرف والغلو؛ لأن هذه الصفات تناقض صفة الوسط التي وصفتْ بها هذه الأمة فضلاً عن رغبة الأمة بتحقيق التعاون بين الناس على قاعدة البر والتقوى لتظل الوشائج بين الجميع أقوى، فتقوى أواصر المحبة بين أبناء المجتمع.
وبهذه الخيرية التي استمدتها الأمة من نشر الهداية والرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة استجابة لأمر الله ﷻ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، يقول ﷻ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، فاستحقت بذلك شرف أن تكون أكرم الأمم على الله ﷻ، بل هي الأمة التي ارتضاها الله ﷻ لتكون شاهدةً على من سبقها من الأمم فظهرت بذلك كرامتها على الله ﷻ، فإن الشهادة لا تُقبل إلا من العدول، وقد شهد الله ﷻ لهذه الأمة بالعدالة بما آمنت من كتاب الله واتباعها سنة نبيها عليه الصلاة والسلام، عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ: “يُدْعَى نُوحٌ يَومَ القِيامَةِ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ يا رَبِّ، فيَقولُ: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ، فيُقالُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: ما أتانا مِن نَذِيرٍ، فيَقولُ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أنَّه قدْ بَلَّغَ: {وَيَكونَ الرَّسُولُ علَيْكُم شَهِيدًا} فَذلكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ علَى النَّاسِ ويَكونَ الرَّسُولُ علَيْكُم شَهِيدًا} والوَسَطُ: العَدْلُ” صحيح البخاري.
فالوسطية منهج رباني وهدي نبوي لهذه الأمة يحقق الأمن والسلام في المجتمعات ويبث الطمأنينة والأمان، وهو دعوة إلى التعاون بين الناس على أساس من التعاون على البر التقوى، وتحقيق التكافل بين جميع فئات المجتمع، يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
ومن أهم خصائص أمة سيدنا محمد ﷺ أنّ قوتها تكون في اجتماعها، وعزتها تتجسد في وحدة كلمتها، ورقيها يتجلى في تآلف أبنائها، فلا تجتمع كلمتها على ضلالة، بل هي أمة هُدى تدعو إلى الخير وإلى صراط مستقيم، عن ابن عمر رضيا الله عنهما أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: “إن الله لا يجمع أمتي- أو قال: أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ الى النار” سنن الترمذي.
لذلك كان من أهم مقومات بقاء الأمة الإسلامية أن يعتصم أبناؤها بحبل الله المتين، وأن تجتمع قلوبهم على المحبة والأخوة التي أمر الله ﷻ بها في كتابه العزيز فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ آل عمران: 103، فالواجب على المسلمين في كل وقت زمان أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا صفّهم، ويؤلفوا بين قلوبهم، فلا يسمحوا لأصحاب القلوب المريضة، والنفوس السقيمة أن يزرعوا الفتن بين أبناء الأمة ويشتتوا شملها، ويوهنوا عزيمتها، خاصة فيما يتعلق بالنعرات العنصرية والدعوات الجاهلية، التي يحاولون من خلالها زعزعة أمن المجتمع، فكل مسلم على ثغرة من ثُغر الإسلام فلا يؤتين من قبله، وقد نبذ الاسلام العنصرية وحذر منها، ولذلك لما كَسَع غلامٌ من المهاجرين غلامًا من الأنصار في غزاة بني المصطلق، واستغاث الأول: يا لَلْمهاجرين، ونادى الآخر: يا لَلأنصار، سمِع ذلك رسول الله -ﷺ- فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»، فحكوا له ما جرى، فقال -ﷺ-:”دعوها، فإنها منتنةٌ” صحيح البخاري ومسلم.
وهذا الأمر يشمل المسابقات الرياضية التي ينبغي أن تبقى في سياقها الرياضي الذي يروّح عن النفس باللعب المباح، حيث أرشدنا النبي ﷺ أنّ في ديننا فُسحة، ولكن لا يجوز أن تتحول هذه المسابقات إلى ساحات لإشاعة الفوضى والفتنة في المجتمع، وأن تصبح سبباً للفرقة والتنازع، فالمسلم دائماً ينظر إلى معالي الأمور وينبذ سفاسفها، ويوجه جهده إلى رقي الأمة في حضارتها وأخلاقها، ولنا في رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة في كل أمور حياتنا، فقد كان له ﷺ ناقةً تُسمى العضباء لا تُسبَق، أو لا تكادُ تسبقُ، فجاء أعرابي على قَعُود له، فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي ﷺ، وهنا كان التوجيه النبي الشريف والدرس العظيم للمسلمين بأن سنّة الحياة الدنيا مبنية على الفوز والخسارة، وأن في ذلك حافز للمزيد من الاجتهاد لا التسخط والغضب، فخاطب النبي ﷺ أصحابه قائلاً بعد أن احتوى ذلك الموقف بكل يُسر ورفق: “حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ” صحيح البخاري.
كما يعلمنا النبي ﷺ كيف تكون الأخلاق العالية في تشجيع المتسابقين، وكيف يكون الاستمتاع بالترويح عن النفس في مرضاة الله ﷻ والابتعاد عن العصبيات المقيتة، حيث خرَج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قومٍ مِن أسلَمَ يتناضَلون بالسُّوقِ فقال: “ارموا بني إسماعيلَ فإنَّ أباكم كان راميًا وأنا مع بني فلانٍ” لأحدِ الفريقينِ، فأمسَكوا بأيديهم فقال: “ما لكم ارموا” قالوا: وكيف نرمي وأنتَ مع بني فلانٍ ؟ قال: “ارموا وأنا معكم كلِّكم “صحيح ابن حبان.
إن المسلم هينٌ لين وهو كما وصفه النبي ﷺ فقال: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِدْ”. مسند الإمام أحمد، والمسلمون الذين يجتمعون على طاعة الله ﷻ، ويعتصمون بأمره ويجتمعون على رضاه، هم قوام وعماد الأمة الإسلامية وسبب عزها ونصرها، وهم حماة بيضتها، وقوة شوكتها، يقول النبي ﷺ: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى” صحيح البخاري.
وهنا -كذلك- خطبة: التعايش السلمي.. منطلقاته وآثاره «مكتوبة» كاملة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: إن الأمة الإسلامية هي خاتمة الأمم التي انتهى إليها ميراث النبوة من أنوار العلم والفهم، يقول النبي ﷺ: “إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” مسند الإمام أحمد، وقد أنيطت بها مهمة الدعوة إلى الله ﷻ وإلى طريق الهداية والرشاد، وهي المهمة التي لخصها ربعي بن عامر رضي الله عنه حين دخل على ملك الروم فقال له: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
لذلك كان حقاً على كلِّ مسلم أن يقوم بهذه المهمة حق القيام، فالمسلم هو سفير أمته للناس، فلا بد أن تظهر فيه أخلاق النبوة قولاً وفعلاً، فلا يقول إلا صدقاً، ولا يفعل إلا خيراً، حتى يعكس الصورة الناصعة البيضاء لهذا الدين العظيم الذي أُرسل به النبي ﷺ، يقول ﷻ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
وإن من أهم مقومات بقاء الأمة الإسلامية أن يعتصم أبناؤها بحبل الله المتين، وأن تجتمع قلوبهم على المحبة والأخوة، فلا يليق بأبناء هذه الأمة أن يجعلوا المسابقات الرياضية في إطار العنف والعصبية والعنصرية فكل هذه الأفعال حاربها الإسلام، ونبذ أهلها، فلا يجوز أن تتحول هذه المسابقات إلى ساحات لإشاعة الفوضى والفتنة في المجتمع، وأن تصبح سبباً للفرقة والتنازع.
وصَل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أيها الخطباء الأجلاء؛ قدَّمنا لكم أعلاه خطبة جمعة بعنوان: خصائص أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومقومات خيريتها. الخطبة مكتوبة وجاهزة للإلقاء أو الطباعة أو المشاركة والنشر. وفَّقكُم الله.