نعم؛ بهذا التنويه الأوَّلي نبدأ صفحتنا. فهذه فعلا خطبة مهمة جدًا؛ تحت عنوان «حياتك أمانة». وأعتقد أنكم فهمتم المُراد. فما رأيكم أن نُلقي نظرة عن كثْب على هذه الخطبة المكتوبة!
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي حملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وامتن علينا بنعمة المركبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى السكينة، والمرشد إلى الفضيلة، ﷺ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم لقاء ربه.
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.
الخطبة الأولى
واعلموا، عباد الله، أن المولى ﷻ أكرم الإنسان، وخصه بمزيد الإحسان ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.
وأمام نعم الله ﷻ، التي لا تحصى ولا تعد، لا بد أن يقف المؤمن وقفة الشاكر الذاكر، وشكر المسلم لنعم الله ﷻ يتمثل في الاهتداء بالهدى الذي جاءه من ربه ﷻ ﴿وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، فليس من الشكر أن تستعمل نعم الله ﷻ في غير ما خلقت لأجله ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
عباد الله: إن من جملة نعم الله ﷻ على عباده ما يسره لهم من سهولة التنقل، وتوافر أنواع المواصلات ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فخلق المولى ﷻ لعباده ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم من وسائل التنقل برا وجوا وبحرا، والمستقبل يرصد لعباد الله ﷻ في رحمه الخير الكثير، فتنقل الإنسان السوي بهذه الوسائل يجب أن يكون بحكمة، ولغرض سديد مشروع، يقول النبي ﷺ: «أعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر».
وحق الله ﷻ في الطريق بأن يستخدمه الماشي فيه بما يعود عليه وعلى غيره بالمنفعة لا بالمضرة، فإنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وإذا نظرنا في إحصائيات حوادث السير فسنجد أنها تبلغ المئات.
فعلى العقلاء أن يقفوا أمام هذه الظاهرة ويتدارسوا سبل الحد من آثارها، والله ﷻ قد هيأ للمؤمنين مجتمعا يتسم بالتكاتف والتعاضد، كما يقول النبي ﷺ: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى»، فلتكن ثقافة المرور مسؤولية يستشعرها الجميع.
عباد الله: إذا نظرنا في أسباب الحوادث فسنجد أنها متعددة، وأغلبها يؤول إلى تصرف الإنسان نفسه؛ من سرعة زائدة، أو إهمال، أو إرهاق، أو سكر، أو تجاوز خاطئ، أو توقف مفاجئ، أو إهمال مسافة بينه وبين الذي أمامه، أو سوء تصرف في الموقف المباغت، كما يلحق بذلك العيوب التي في المركبة أو في الطرقات، أو تقلبات الطقس والمناخ.
وزد على تلكم الأسباب ما انتشر بين بعضهم الآن من اشتغال بالهواتف في أثناء القيادة، فيا عباد الله، مهما تعددت أسباب الحوادث فالمؤمن مأمور بأن يحذر من مسببات الأذية، ويأخذ بطرق السلامة؛ قال ﷻ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
فالذي يقود مركبته في سرعة جنونية، أو يتعمد استعراض سياقته للمركبة ليسمع الآخرين صرير عجلاتها، أو ليظهر للناس أن لديه مهارة في حركات متعرجة في أثناء قيادته، فيرائي الناس باستعراضاته المتهورة، فأين هو من قول الله ﷻ: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾!
فيؤدي تهوره وسرعته إلى أن يتلف نفسه، أو يتلف غيره، ويزهق الأرواح، فييتم الأطفال، وتثكل الأمهات، وترمل النساء، ما موقفه إذا سئل يوم القيامة ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾!
وذلك الذي يتناول ما حرم الله عليه من المسكرات أو المخدرات، ثم يمسك مقود السيارة وهو لا يدري ماذا يفعل، وإلى أين تتجه به المركبة؛ فتناوله الخمر أذهب قدرته على التحكم بمقود سيارته فتصدم هنا وهناك مما يؤدي إلى إتلاف نفسه أو إتلاف أنفس الآخرين وأموالهم، إنها نتيجة مؤلمة، وكم تكرر حدوث ذلك للأسف الشديد، فأين هو من قول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾! ولما سمع أصحاب رسول الله ﷺ هذه الآية قالوا:”انتهينا يا رب، انتهينا يا رب”.
فنفسك –أيها السائق– أمانة، وجميع ما خولته أمانة، من مال وأهـل وولد، ولا بد من السؤال عن الأمانات، وإن من تضييع الأمانة ما يفعله بعض الآباء من تسليم قيادة المركبة لمن هم دون السن القانونية للقيادة من أبنائهم، فتحدث النتائج غير محمودة العقبى، وما هذا إلا من التفريط في ضوابط السير على الطريق، ألا فلتدركوا أنه ما سنت هذه القوانين عبثا، إنما هي نتيجة تجارب وتراكم خبرات، وثمرة ضبط وقياسات، فلا بد من مراعاتها ولا بد من الانضباط بها، حفظا للنفس والعقل والنسل والمال والعرض.
فاتقوا الله –عباد الله–، وعليكم أن تحفظوا أمانة الأرواح، وتلتزموا ما يضمن سلامتكم من ضوابط السير على الطرقات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله الأمين، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد، فيا عباد الله: إن من التهور أن يمسك الواحد بهاتفه وهو يقود مركبته، ليرد على اتصال أو رسالة، أو ليفتح بعض برامج هاتفه، وقد بين الخبراء أن الإنسان مهما أوتي من نباهة وذكاء، فإنه لا يمكنه أن يؤدي أكثر من عمل في وقت واحد، فلا بد من أن تقع منه الأخطاء، فصرفه نظره عن الطريق أمامه لينظر في هاتفه مدة ثانيتين وهو يقود بسرعة مائة كيلومتر في الساعة يعادل قيادة لمسافة ستين مترا وهو مغمض العينين، وكقاطع الطريق بمركبته في الليل من غير إضاءة، وفي لحظات غفلة وهو مشتغل بغير طريقه يفقد مساره، فتذهب مركبته على غير هدى فيقع المحذور، والنتيجة مؤلمة، فعلى العاقل أن يحسب حسابه، ولا يكن حتفه في هاتفه، ألا فلتستمع إلى نداء ربك :﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾، ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.
فاتقوا الله –عباد الله–، واحفظوا أنفسكم، ولا تجعلوا أخطاءكم تذهب بحياتكم أو بما تملكون، فقيمة الإنسان في الإسلام غالية، وروح المسلم عالية، ولذا نجد الكثير من النصوص الشرعية المتعلقة بأحكام النفس الإنسانية، كقول الحق ﷻ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.