وفي هذا الوقت العصيب على المرابطين والصابرين والمجاهدين هناك؛ نعم، نحن نعي معنى “هناك”؛ فهذه خطبة: المسجد الأقصى المبارك حقٌّ خالص للمسلمين. وهي أحد خُطب الجمعة المكتوبة، والمتجددة؛ التي تتناول أمر المسجد الأقصى والقضية الفلسطينية وما يدور على الأراضي المُحتلَّة، سواء الضّفَّة أو غزَّة؛ والمسجد الأقصى بشكل خصوصي.
مقدمة الخطبة
الحمد لله ﷻ؛ المتفرد بالعظمة والكبرياء والجلال، سبحانه المتوحد بالربوبية والوحدانية وصفات الكمال، الذي أسبغ على عباده النعم الجزال، وتعرف إليهم بآياته ومخلوقاته، فهي براهين على الحق دوال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ﷻ الكبير المتعال.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الخلق في كل الخلال. اللهم صل وسلم على محمد ﷺ، وعلى آله وأصحابه، خير صحب وأشرف آل.
الخطبة الأولى
المسجد الأقصى المبارك حق للمسلمين بنصّ التنزيل المحكم قوله ﷻ: ﴿سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾، هذه الآية الكريمة هي المُعظمة لقدر المسجد الأقصى بإسراء سيدنا رسول الله ﷺ إليه قبل عروجه إلى السماء، فهذا حق تجتمع فيه درجات اليقين الثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛ لثبوت هذا الحق في القرآن الكريم.
إن المسجد الأقصى المبارك هو أُولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ» — رواه البخاري ومسلم.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن فتح بيت المقدس بين يدي الساعة، ووقع ذلك يقينًا ففتحه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه صُلحًا في ذي القعدة سنة ست عشرة من الهجرة بعد أن التحق سيدنا رسول الله ﷺ إلى الرفيق الأعلى بخمس سنين وأشهر، قال الله ﷻ: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
ولمكانة المسجد الأقصى المبارك في الإسلام فإن له أكثر من سبعة عشر اسمًا، منها اسمان عظيمان هما: بيتُ المَقْدس، أي المكان الذي يطهّر فيه من الذنوب، والبيت المُقدَّس: المطهر، وتطهيره: إخلاؤه من الأصنام.
ويقيناً أن دخول رسول الله ﷺ بيتَ المقدس جعل هذا المكان طاهراً إلى قيام الساعة، ليأتي بعده الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليطهره حسًّا ومعنى، ولن تُنصب فيه الأصنام أبداً حتى يرث اللهُ الأرضَ ومنْ عليها.
ولذلك فإن الامة المسلمة ترفض الظلم والبغي والعدوان الغاشم على بيت المقدس، وما تراه الأبصار من اعتداء الاحتلال على المسجد سيزول يقيناً، لأن يقين بصائر المسلمين بحقهم في المسجد الأقصى المبارك أعظم مما تراه أبصارهم، قال الله ﷻ: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
وما زال بيت المقدس على مر العصور والأزمان يشهد استهدافاً متواصلاً من قبل اعداء الاسلام، وها هي القدس والمسجد الأقصى المبارك في منتصف القرن الماضي كانا وما زالا يواجهان تهديداً مستمراً من المحتلين، ولقد سجلت كتب التاريخ البطولات التي شهدتها المدينة المقدسة لتحرير أرضها والحفاظ على قدسيتها، فالقدس لها على مر الزمان تاريخ حافل وحضارة عريقة لم يشهد لها الزمان نداً ولا شبيهاً.
ولا زال أهل القدس يستنشقون عبق المسك المنبعث من دم شهداء الجيش العربي الأردني الذين ارتقوا دفاعاً عن القدس ومسجدها في باب الواد وعلى أسوار الأقصى، ونحن نرى الاعتناء الهاشمي بالقدس والمقدسات إعماراً وصيانة وحرصاً دائماً مستمراً للحفاظ على هذه البقاع الطاهرة.
والدفاع عن المسجد الأقصى والذبّ عن حياضه، من قبل المقدسيين والمصلين هناك هو حماية لشرف الأمة ودفاع عن عقيدتها وإحياء لشعائر الله ﷻ، وتنفيذ لوصية النبي ﷺ عندما حث على الإقامة: قال ذي الأصابع: يا نبي الله إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا، فقال: «عليك ببيت المقدس فلعل أن ينشأ الله لك ذرية تغدو إلى ذلك المسجد وتروح» — مسند الإمام أحمد.
ولا يزال المسجد الأقصى قائماً بسواعد أبنائه وتضحياتهم في سبيل أن تبقى أبوابه مفتوحة للقائمين والعاكفين والركع السجود، مستعينين بالله ﷻ واثقين بوعده ونصره، قال الله ﷻ: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» مسند الإمام أحمد، فهذه الطائفة كانت وستبقى في المسجد الأقصى ترابط وتدافع وتقدم التضحيات في سبيل الدفاع والذود عن حياضه.
إن عقيدَتنا تُجاهَ الحرمِ القدسيِ الشريف أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالثِ الحرمينِ الشريفين عقيدة ثابتة لا تتزحزح، وإن ما يتعرض له المسجد الأقصى في هذه الأيام من تهويد وتهديد وحفريات ومحاولات للتقسيم الزماني والمكاني، ومحاولات لنزع أرض القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك من أهله ظلماً وعدواناً، وما يتعرض له العلماء والمرابطون هناك من تضييق واعتقال، كل هذه المؤامرات تستصرخ ضمائر المسلمين ليقفوا صفاً واحداً لرد الأذى عن القدس والمقدسات ولتعميق معاني الشعور بقداستها في قلوب الصغار والكبار على حد سواء.
فالواجب على أمةِ الإسلامِ اليومَ، القيامُ بالعملِ الجادِّ وتربية الأبناء تربيةً إسلاميةً صحيحة، مِلؤُها مشاعرُ العزةِ والكرامَة، والرغبةِ في استرجاعِ الحقِّ الضائع، من خلال ربط الأجيال بالمسجد الأقصى المبارك،لأنه حق خالص للمسلمين.
هنا أيضًا خطبة: المسجد الأقصى المبارك شعار عزة المسلمين، ومحط رعاية الهاشميين
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
إن الانتصار للمسجد الأقصى المبارك واجب شرعي، ولذلك جعله جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ﷻ في سويداء قلبه، ولسانه لا يكلُّ في المحافل الدولية دفاعاً عن هذا الحق المبين، وستبقى الوصاية الهاشمية دليل على أنه الراعي الأمين لهذه المقدسات، والتضحيات العظيمة التي قدمها الجيش العربي المصطفوي ستبقى خير شاهدٍ يكتبها التاريخ بأحرف من نور.
وإن هذا الثبات على الانتصار للأقصى المبارك والمقدسات في زمن عزَّ فيه الأنصار لهذا المسجد الأسير ليعطينا الأمل والثقة بهذه القيادة الهاشمية التي لا تتخلى عن عقيدة الأمة وحضارتها، وتعزز ثقتنا بالوعد الإلهي الذي أكرمنا الله ﷻ به: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾، فنسأل المولى ﷻ أن يعيد القدس ومسجدها الأقصى المبارك الى ديار الاسلام والمسلمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وبعد؛ فقد قدَّمنا لكم —أيها الإخوة الخطباء في شتَّى بقاع الوطن العربي والإسلامي— خطبة جمعة مكتوبة؛ بعنوان: المسجد الأقصى المبارك حق خالص للمسلمين. وهذه أيضًا —لمزيد من المقترحات البنَّاءة— خطبة عن المسجد الأقصى وما جرى فيه من أحداث مؤسفة. نسأل الله ﷻ الحليم الكريم أن ينفعنا ويوفقنا، وإياكم لكل خير.