مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أكرم عباده بدين يرعى حقوقهم، ويحترم حاجاتهم، نهاهم فيه عن التسول، ودعاهم إلى التكافل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الخير في الصدقات والمعروف والإصلاح بين الناس، فقال وقوله الحق: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أفضل المتصدقين، وأحسن المربين على العفة والخلق الرزين، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المتقين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله، وربوا أقوالكم وأفعالكم على طاعة المولى، فإن فيهما صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب والفوز برضى علام الغيوب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، واعلموا –هداني الله وإياكم للخير– أن الإسلام الحنيف جاء لتكريم الإنسان ورفع مكانته وحفظ كرامته، ولقد قال ربنا ﷻ في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.
ولذا؛ فلا يليق بالمرء وهو يؤمن بالله العظيم، ويتنعم بخير دينه القويم أن يذل نفسه، والنبي ﷺ قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه»، ولا عجب أن إكثار الإنسان من سؤال غيره تسولا أمر يريق ماء الوجه، وينزل كرامته في الدون، كيف لا ؟! وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم».
أيها المؤمنون: تأملوا معي قول الله ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، إننا نلحظ أن الإسلام دين يحث على العفة ويحض على العمل واتخاذ الأسباب للكسب الحلال، ولا ريب أن الحياة تطيب مع كسب ناله المرء من عرق جبينه وكد يده.
وقد دعا إلى ذلك رسول الله ﷺ حين قال: «ما كسب الرجل كسبا أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة»، فديننا الكريم دين العفة وعزة النفس، وقد امتدح الله ﷻ المتعففين حفظا لأنفسهم، والتجاء لربهم فقال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾، وقد رسخ نبينا الكريم عليه أفضل السلام والتكريم هذا المعنى ذما للسؤال وتحقيرا للمسألة، فعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي ﷺ فسأله فأعطاه، فلما وضع رجله على عتبة الباب قال رسول ﷺ: «لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا».
وإن تعجب فعجب من بعض الناس –هداهم الله– الذين يطيب لهم أن يجعلوا التسول مهنة يمتهنونها، وعادة سرت في أنفسهم فاعتادوها، فلا يتورعون عن طلب أي حاجة من غيرهم، وإن رسول الله ﷺ بين خطر أن يسأل المرء الناس ليزيد أمواله دون حاجة فقال: «من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار»، ولا غرابة أن من التزم أمر الله، ولم يسأل أحدا إلا الله أعانه ﷻ، فبيده سبحانه فتح المغاليق، وعنده المدخل الكريم، يقول ربنا العظيم: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا * وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.
عباد الله: ما أرسل النبي ﷺ إلا رحمة للعالمين، يقول الله ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، ومن رحمته ﷻ أن جعل التكافل بين المسلمين، والتعاضد بين المؤمنين سمة من سماتهم، وصفة معروفة عنهم، وقد أمرهم ربهم جل وعلا بذلك فقال: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾، والله ﷻ يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وقد حث النبي ﷺ على الصدقة في مواضع كثيرة، منها قوله ﷺ: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب –ولا يقبل الله إلا الطيب– فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه ﴿أي مهره﴾، حتى تكون مثل الجبل».
ولا عجب –يا عباد الله– أن إخراج الصدقات، واجبها ومسنونها، مفروضها ومندوبها، يحمي المجتمع من انتشار عادة التسول غير المحمودة، فالمؤمنون بعضهم لبعض، يخرج غنيهم من ماله عونا لفقيرهم، ويلتمس أحدهم حاجة أخيه فيسدها رحمة به، وفي الحديث يقول رسول الله ﷺ: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى».
فاتقوا الله –عباد الله–، وتذكروا قول الله سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ وهنا خطبة: ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المقتفين آثاره وخطاه.
أما بعد، فاتـقوا الله –عباد الله–، واعلموا أن رسولكم الكريم ﷺ ما فتئ يعلمنا ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، ومما أفاض به على أمته تعليمهم حسن الطلب بما يحفظ للنفس عزتها، ويحمي للروح كرامتها، فعن قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة، –أي ما يقتضي الصلح بين الطائفتين من تحمل مال وغيره–، فأتيت رسول الله ﷺ أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها»، قال ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة –يا قبيصة– سحت، يأكلها صاحبها سحتا».
ففي الحديث نهي صريح عن سؤال الناس من غير حاجة، وتوضيح لمن جاز له أن يسأل الناس بقدر ما يعينه على حاجته، كمن أصابته خسارة أتت على ماله كله، أو حل به فقر مدقع مشهود من قبل الناس، فله أن يأخذ حتى يخرج من هذا الحال، فوقوع الناس في الفاقة وضيق الحال أمر ممكن، وإن من رحمة الله أن من على الناس في بلدنا المعطاء بأهل الخير والإنفاق والبذل، ولجان الزكاة والفرق الخيرية تبحث في حاجات المستحقين، وتميز أهل الاحتياج من غيرهم، فلا أعدمنا الله ﷻ تكافلا بين أبناء وطننا العزيز، ولا حرمنا من التعاون على البر والتقوى.
فاتقوا الله –عباد الله–، احفظوا ماء وجهكم من سؤال غيركم ما لا تحتاجون إليه، وبادروا إلى تخفيف ما يثقل كاهل أبناء مجتمعكم مما تضيق به نفوسهم، فإن الله ﷻ قد قال: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
⇐ وختامًا؛ هذه خطبة: كرامة الإنسان في الإسلام — مكتوبة