حسن العشرة وحفظها؛ نعم، هذا عنوان خطبة الجمعة القادمة. صِدقًا؛ أخَطر مثل هذا عنوان وموضوع في ذهنك؟ أعتقد لا. حيث أنّ الخطباء في هذا التَّوقيت من شهر رجب يعكفون على عناوين خُطَب –يعتقدون أنها– تتناسب معه، مثل فضل شهر رجب أو الإسراء والمعراج.. الخ
لكِن أن يكون موضوع الخطبة حول موضوع كهذا، فظَنّي أنه لم بكن على البال. ولأن موضوع الخطبة فعلا رائِع ويستحق تسليط الضوء عليه كثيرًا، جِئناكم اليوم بِه.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
الخطبة الأولى
وبعد.. فإن حسن العشرة وحفظها من الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة التي دعا إليها ديننا الحنيف، وذلك دأب النبلاء الطيبين، الأوفياء الصادقين، حيث يقول الحق ﷻ: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول ﷻ: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، ويقول ﷻ: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}، ويقول نبينا ﷺ: «ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
والمتأمل في سيرة نبينا ﷺ يجده نعم القدوة في حسن العشرة مع أهله وأصحابه ومع الناس جميعا، فهو الذي وصفه ربه ﷻ بقوله: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وبقوله ﷻ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وبقوله ﷻ: (ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ)، ويقول ﷺ: «أنا أولى بكل مسلم من نفسه من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا أي أسرة: أولادا صغارا فإلي وعلي».
لذلك كان نبينا ﷺ خير الناس أبا وزوجا وجدا وصاحبا ﷺ، فها هو ﷺ يعين أهله ويساعدهم في حاجتهم، ويقضي بعض وقته الشريف معهم لإدخال السرور عليهم، تحقيقا لقوله ﷻ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقول نبينا ﷺ «استوصوا بالنساء خيرا»، وقوله ﷺ: «اتقوا الله في النساء»، وقوله ﷺ: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
وكان ﷺ أبا رحيما، وجدا ودودا كريما، يقول أنس بن مالك –رضي الله عنه– (ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ)، وكان ﷺ إذا دخلت عليه ابنته فاطمة –رضي الله عنها– قام لها وقبلها بين عينيها، وأجلسها عن يمينه، بل كان يخصها ببعض أسراره إكراما لها وثقة فيها.
وعندما كان ﷺ يخطب على المنبر وجد حفيديه السيدين الحسن والحسين –رضي الله عنهما– يتعثران في المشي، فنزل من على منبره الشريف، واستلمهما وقبلهما، وقال: «نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما»، وكان ﷺ يصلي وهو حامل حفيدته أمامة بنت السيدة زينب –رضي الله عنها–، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، فما أرق عشرته ﷺ وأجملها!
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا شك أن حفظ العشرة وصيانة الجميل دليل وفاء الإنسان، وكرم أصله ومعدنه، وحسن تدينه، والأسوة في ذلك أيضا المثل الأعلى للبشرية كلها نبينا ﷺ الذي كان وفيا لأهله ولأصحابه وكذلك مخالفيه، فتأتيه ﷺ عجوز، فيحسن إليها أعظم الإحسان، ويكرمها أشد الإكرام، وعندما تسأله السيدة عائشة –رضي الله عنها– عن ذلك، يقول ﷺ: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان».
ويقول نبينا ﷺ في الأنصار الذين آووه وناصروا دعوته ﷺ: «…والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، ويقول في شأن صديقه ورفيق حياته أبي بكر –رضي الله عنه–: (إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته)، ولم يكن ذلك مع أهله وأصحابه ﷺ فحسب، إنما كان مع الناس عامة، فعن السائب بن أبي السائب قال: “أتيت النبي ﷺ فجعلوا يثنون علي ويذكروني فقال رسول الله ﷺ: «أنا أعلمكم» – يعني به – قلت: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري، ولا تماري.
وكما كان ﷺ يحفظ العشرة مع أهله وأحبابه، كان كذلك مع مخالفيه، ففي يوم بدر يتذكر ﷺ المطعم بن عدي، ذلك الرجل الذي دخل النبي ﷺ مكة في جواره بعد عودته من رحلة الطائف، فيقول ﷺ: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له».
فما أجمل أن نتصف بحسن العشرة وحفظها مع الأهل والزملاء والجيران والناس جميعا، حيث يقول نبينا ﷺ: «خير الأصحاب عند الله خيركم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيركم لجاره»، ويقول ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
اللهم احفظ مصرنا، وارفع رايتها في العالمين.
الآن؛ تحميل الخطبة بصيغة pdf: فقط؛ اضغط هنا.