لكُم مِنَّا اليوم خطبة عن حب الوطن. تِلك التي تشتمل على مقدمة ومحتوى مُعنصَر ثم أدعية، جميعها تعكِس موضوع الخطبة. وقد عُزِّزَت بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وقصص ومواقف لتقِف على المنبر بأقدام ثابِتة.
هي خطبة جمعة عن حب الوطن في ضوء الكتاب والسنة؛ تجِدونها ضِمن قسم الخُطَب في موقع المزيد هنا، حيثُ ملتقى الخطباء وصوت الدعاة المُتجدد -بإذن الله- معكُم.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ للناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الأولى
أما بعد فاتقوا الله عباد الله وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه.
أيها المؤمنون؛ لقد جُبل البشر على حب الأوطان والشغف بالمنشأ، وهذا الحب فطرة ثابتة في حنايا النفوس ومتجذرة في شغاف في القلوب.
ووطن المرء أرضه التي بها ولد وعليها تربى وعلي ترابها درج وبخيراتها نعم، وفي محاضنها نشأ.
إن هذا الحب الجِبلّي للأوطان سبب لعمارتها وسلامتها من الخراب، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: “لولا حب الوطن لخرب بلد السوء”. وقيل بحب الأوطان عُمرت البلدان. وعن بن الزبير -رضي الله عنه- قال: “ليس الناس في شيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم” وقيل: “كما أن لحاضنتك حقاً لبنها فلأرضك حرمة وطنها”.
مكانة حب الوطن في القرآن
أيها المؤمنون لقد دَلّ القرآن الكريم على هذه المكانة لحب الأوطان، وأنه أمر فطري جبلت عليه النفوس. قال الله -تبارك وتعالى- “ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلاً منهم”.
فقرن جل شأنه الجلاء عن الوطن بالقتل وهو بمفهومه يفيد أن الإبقاء فيه عديل الحياة، وقال سبحانه: “قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا” فجعل القتال ثأراً للجلاء.
عباد الله؛ وإذا كان هذا الحب قائما في نفوس البشر كل لوطنه فكيف الأمر في هذا الوطن المبارك بلد التوحيد والعقيدة ومهد السنة والرسالة ومهبط الوحي ومأرز الإيمان وأرض الحرمين وقبلة جميع المسلمين.
إن الوطن المسلم القائم على الشرع والمقيم لحكم الله جل وعلا قد اجتمع لأهله حباً حبٌ فطري وهو المتقدم ذكره وحب واجب وهو ذلكم الحب العظيم المبنى على الصلاح والإصلاح.
حب النبي -صلى الله عليه وسلم- للوطن
وتأملوا أيها المسلمون حب النبي -صلى الله عليه وسلم- للوطن متمثلاً في أحاديث كثيرة منها؛ “فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر فأبصر جداراتِ المدينة أوضع ناقته وإن كانت دابة حركها من حبها” أي من حب المدينة؛ لأنها وطنه المبارك وداره الطيبة، وأمر -صلى الله عليه وسلم- أمته سرعه الرجوع إلى أوطانهم عند انقضاء أسفارهم وحاجاتهم سواء منها الدينية أو الدنيوية.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “قال: السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله”.
بل إنه -عليه الصلاة والسلام- دعاء إلى الرجوع إلى الوطن ولو كان السفر إلى مكة بيت الله الحرام “فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إذا قضى أحدكم حجه فليعجل الرحلة إلى أهله فإنه أعظم لأجره” قال العلماء: المراد بأهله أي وطنه وإن لم يكن له فيها ولداً أو أهل.
أيها المؤمنون؛ المسلم الصادق أصدق الناس حباً لوطنه؛ لأنه يريد لأهله سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام وتبني عقيدته القويمة وإنقاذهم من النار ومن سخط الجبار. قال الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون أنه قال “يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا” قال ذلك محذراً لقومه وناصحاً لهم ومُريداً لهم الخير والصلاح والنجاة.
حب الأوطان الصادق
حب الأوطان الصادق لا يكون إلا بالسعي فيما يُصلحها ولا صلاح لها إلا في دين الله -تبارك وتعالى- ولا قوام لها إلا بشرعه، وكل ما عارض الشريعة فليس بإصلاح بل هو من الإفساد وليس من حب الوطن في شيء.
عباد الله صلاح الوطن لا يكون إلا بعدة أمور منها؛ صلاح العقيدة الإسلامية واستقامتها، قال الله تعالى “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا”
وبتحكيم الشريعة على أرضه وبين أهله وعمارة أرجائه بالإيمان وتقوى الرحمن قال الله تعالى “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض”
ويكون بإعلاء شأن الدعوة إلى الله فيه وإقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله سبحانه “الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور”
ويكون بمجانبة الذنوب والمعاصي وإقصاء الفساد والانحلال فإنه دمار للديار وهلاك لأهلها؛ قال الله تعالى “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”
ويكون بالبعد عن البتر وكفران النعم؛ قال الله -تبارك وتعالى- “وضرب الله مثلاً قرية كانت أمنه مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”
ويكون بلزوم الجماعة والسمع والطاعة إذ أن مصالح الأمة لا تتم إلا بجماعة، والجماعة لا تتم إلا بإمارة والإمارة لا تقوم إلا على وطن.
المواطنة الصالحة
أيها المؤمنون إن المواطنة الصالحة ليست كلمات تردد ولا شعارات ترفع؛ وإنما هي إخلاص وعمل ونصح صادق للوطن رعاة ورعية.
عباد الله هذه دعوة لجميع من أكرمهم الله -عز وجل- بسكنا هذا الوطن أو الإقامة فيه أن يتقوا الله -عز وجل- في هذا الوطن المبارك، وأن تكون سكناهم إقامتهم فيه مبنية على النصح والإصلاح والصلاح والبعد الكامل عن الشر والفساد، ولنراقب الله -عز وجل- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- “أنه قال الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام واجعلنا وأهلينا وذرياتنا صالحين مصلحين يا رب العالمين. عباد الله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الشأن واسع الفضل والجود والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فاتقوا الله أيها المؤمنون فإن تقواه خير زاد ليوم الميعاد واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ثم قم صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلكم الله فقال -جل في علاه- “إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً”؛ وقال -صلى الله عليه وسلم- “من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا”.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأرض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
الدعاء
- اللهم أعِز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
- اللهم أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
- اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام.
- اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
- اللهم ألف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
- اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونعوذ بك اللهم من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، وأن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً يا رب العالمين.
- اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
- ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
- ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على عموم نعمه وآلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
تفاصيل الخطبة
- عنوان الخطبة: خطبة جمعة عن حب الوطن في الإسلام.
- للشيخ: أسامة حسين مشاط؛ جزاه الله خيرًا.
كلمة المحرر
لن تحتاج إلى أمر وتكليف من وزارة الأوقاف التي تتبعها أو أن تكون خطبة الجمعة القادمة في بلدك بعنوان حق الوطن والمشاركة في بنائه؛ لكي تُلقي تلك الخطبة الهادفة. فهل يحتاج الوطن إلى توقيت معين لتكون له خطبة محفلية أو ليوم الجمعة عنه؟
فكِّر في الأمر واختر بنفسك؛ لن تجِد أن هناك مناسبات مثل يوم الاستقلال أو اليوم الوطني أو السادس من أكتوبر أو العاشر من رمضان.. الخ؛ فقط إنه الوطن وحبه.
ومن اقتباسات غسان كنفاني: حين تخون الوطن لن تجد تراباً أحن عليك يوم موتك، ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت.