وكما هو واضح من عنوان هذه الصفحة؛ فنحن اليوم بصدد تقديم خطبة جمعة قصيرة جدا وسهلة مكتوبة؛ حول موضوع الأمانة، وما ورد فيه وحوله من توجيه في كتاب الله ﷻ وفي سُنَّة نبيّه الكريم ﷺ.
نعم؛ لقد طرحنا من قبل خطبة عن الأمانة بشكل مُفصَّل وقوي؛ إلا أنّ خطبة اليوم نسوقها إلى الأئمة والخطباء الذين يريدون خطبة جمعة قصيرة جدا وسهلة مكتوبة عن نفس الموضوع؛ وهو خُلُق الأمانة.
فالله نسأل أن تكون هذه الخطبة -وكل الخطب- ذات فائدة جمَّة للخطباء والمسلمين عامَّة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، يحب من عباده الأمناء الموفين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالاقتداء بأهل الأمانة من الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، الصادق الأمين، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- وأدوا الأمانات، ففي ذلك مضاعفة الأجور ورفع الدرجات ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إن من أعظم الصفات التي وجب على الإنسان أن يتصف بها صفة الأمانة، وما أدراك ما الأمانة! تلك الصفة التي ألبسها الله أنبياءه، وحلى بها أصفياءه وأولياءه، وانظروا في القرآن الكريم – عباد الله – فإن طائفة من أنبياء الله قالوا لأقوامهم: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾، فقد جاءت هذه الآية البينة خمس مرات متتاليات على ألسنة رسل الله؛ فقد قالها نوح لقومه، وقالها هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام.
وما الكياسة إلا أن يتصف الإنسان بأعلى الصفات، وأعلى الصفات ما اتصف به الأنبياء والمرسلون، وأحسن الخلق ما تخلقوا به، وماذا يكون الإيمان بالأنبياء إن لم يكن اتصافا بصفاتهم وتخلقا بأخلاقهم! وهم الذين قال فيهم ربنا جل جلاله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
وإذا ما جئنا إلى نبينا محمد ﷺ وجدناه موصوفا بالأمانة قبل البعثة، وتلك الصفة هي التي جعلت قومه يرضونه حكما في رفع أكبر خلاف كان بين أهل مكة، وهو الخلاف فيمن يرفع الحجر الأسود عند إعادة بناء الكعبة المشرفة، والسبب في ذلك اتصافه بالأمانة، فلما رأوه طالعا عليهم قالوا: هذا الأمين، رضينا به حكما.
بل إن الأمانة والأمر بها – أيها المؤمنون – علامة على صدق النبوة؛ ولذلك أدرك هرقل أن محمدا ﷺ نبي حين أخبره أبو سفيان عن الخصال التي يأمر بها رسول الله، ومن تلك الخصال الأمانة، فقال هرقل لأبي سفيان: سألتك عن ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة؛ وهذه صفة نبي.
بل إننا نجد نبينا ﷺ في أحلك الظروف وأشدها عليه وعلى أصحابه – وهو يستعد للهجرة – يأمر علي بن أبي طالب أن يؤدي الأمانات إلى أهلها، فيؤدي تلك الأمانات إلى أهلها ويلحق بالنبي ﷺ مهاجرا بعد ثلاثة أيام، فأي خلق أكرم من خلق رسول الله ﷺ! تلك الأخلاق التي تكون على سواء في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، ومع الأصدقاء والأعداء، وكم كانت أخلاقه الشريفة العالية سببا في دخول الناس في دين الله!
وإن تعجب فاعجب من أهل مكة الذين كانوا يعادون النبي ﷺ، ثم لا يجدون من هو أعظم أمانة منه! فيودعونه أماناتهم، ويأتمنونه على الغالي من أموالهم وممتلكاتهم؛ ليصدق فيهم قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
وما أوثق تلك العلاقة بين الصلاة والأمانة! فنجد القرآن الكريم يذكر الصلاة والحفاظ عليها والخشوع فيها، ثم يذكر رعاية الأمانة؛ ليكون ذلك إشارة إلى أن قبول الصلاة ينعكس أثره على قول الإنسان وفعله، وتصرفه وسلوكه، ومن تلك الخصال التي تكون أثرا لقبول الصلاة رعاية الأمانة، ومن هنا كان اقترانها بالصلاة، فالله ﷻ يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ | الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، ثم يقول بعد ذلك: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ | وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ | أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ | الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
فكانت الأمانة متوسطة بين الخشوع في الصلاة والحفاظ عليها.
ويقول ربنا ﷻ في سورة المعارج: ﴿إِلاَّ الْمُصَلِّينَ | الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، ثم يقول بعد ذلك: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ | وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ | وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ | أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، فكانت الأمانة متوسطة بين الدوام على الصلاة والحفاظ عليها ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
هنا أيضًا: خطبة: التحذير من الغفلة والبغتة في القرآن الكريم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه الأمناء الصادقين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الأمانة ليست حفظ شيء وأداءه كما حفظ من غير نقصان فحسب، بل إن الأمانة تدخل في كل شيء، في دين الإنسان ودنياه، وفي نفسه وبدنه وأهله وأولاده، وفي عمله ومنصبه وبيعه وشرائه، وفي أخذه وعطائه وأقواله وأفعاله.
وما أحسن قول من قال: إن الإسلام اختصر في الأمانة؛ ولذلك كانت الأمانة شيئا عظيما أبت السماوات والأرض والجبال حمله وحمله الإنسان ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾.
فهنيئا لمن حمل الأمانة على الوجه الذي أمر به الله ورسوله؛ فإن رعاية الأمانة طريق محبة الإنسان لله ورسوله، وطريق محبة الله ورسوله للإنسان، يقول النبي ﷺ: «من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره»، وإن مما أوصى به النبي ﷺ في حجة الوداع أداء الأمانة فقال: «ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ونترككم ختامًا مع: خطبة عن العفو والإحسان.. بليغة الإرشاد والوعظ الحسن