مقدمة الخطبة
الحمد لله الحَكَمِ العدل، الذي بيّن لعباده الحلالَ فأوضح سبيله، والحرامَ فجلّى دليله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحلَّ الطيبات رحمةً، وحرّم الخبائث حكمةً.
وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، علَّمنا من الوحي ما به تُستضاء الظلمات، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: يقول الله ﷻ: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ المائدة: 92، ويقول الله ﷻ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ الأنعام: 151.
وطاعة الله ورسوله تكون باتِّباع ما أحلّه الله واجتناب كلِّ ما نهى الله ورسوله عنه. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: “إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”، رواه البخاري ومسلم.
فالحلال ما أحله الله ﷻ من المأكل والمشرب والملبس، وقد بيّن الله ﷻ ورسوله الكريم ﷺ الحلال والحرام، ومن رحمة الله ﷻ أن الحلال كثير. وما أحلّه اللهُ لنا واسعٌ متنوّعٌ. وأن الأصل في الأشياء الإباحة. والحرام هو ما حرّمه الله ﷻ وهو ما نهى الله عنه صراحة، كالكذب، والزنا، وأكل أموال الناس بالباطل.
فيجب على كل مسلم أن يتفقه في أمور دينه حتى يعرف الحلال الواضح فيقبل عليه. ويعلم الحرام الواضح فيتجنبه. وهناك أمور مشتبهة لا يعلم أحلال هي أم حرام، وهذه أيضاً يجب أن تعرض على أحكام الشريعة ويسأل عنها الفقهاء والعلماء، يقول الله ﷻ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل: 43.فما عرفت أنه حلال اعمل به، وما عرفت أنه حرام تجنبه، وما بقي في دائرة الشبهة أو لم يعلم حكمه بعد فيجب عليك تجنبه كما تتجنب الحرام. حفاظاً على دينك وخشيةً من الوقوع في الحرام، لقول رسول الله ﷺ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ».
وكما قال ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» سنن الترمذي. وكما أنه لا يجوز أن تنتهك حرمات الله ﷻ، كذلك لا تحُم حولها بارتكاب الشبهات التي لم تتأكد من حِلها وإباحتها، وهذا هو الورع المطلوب الذي قال فيه رسول الله ﷺ: « كن ورعاً، تكن أعبد الناس، وكن قَنِعاً، تكن أشكر الناس» سنن الترمذي. وقال عمر رضي الله عنه: “تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا”.
واعلموا أن المحرمات على أقسام:
- القسم الأول: شيء محرم في عينه، وذلك كأكل الميتة والدم والخمر ولحم الخنزير، وما لا يحل أكله من الطير والحيوانات والحشرات، وهذا القسم لا يحل منه قليل ولا كثير بوجه من الوجوه إلا عند الاضطرار، وهو أن يشرف الإنسان على الهلاك ثم لا يجد غيره، يقول الله ﷻ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النحل: 114-115.
- القسم الثاني: أكل أموال الناس بالباطل، يقول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ النساء: 29.
قال القرطبي: “والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه”، وعليه فإن من اعتدى على أموال الناس بالباطل وأكلها بغير وجه حق، فقد أكل مالاً حراماً، وكما قال -ﷺ-: «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به» سنن الترمذي.
ومن الأمثلة على أكل أموال الناس بالباطل، أكل أموال اليتامى ظلماً فإن عاقبتها شديدة عند الله عز وجل، يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ النساء: 10، وكذلك أكل أموال بعض الوارثين ظلماً وعدواناً كحرمان البنات من حقهم في الميراث.
ومن أمثلة أكل الأموال بالباطل كذلك أن يتعامل المسلم بالربا أخذاً أو إعطاءً يقول الله ﷻ: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ البقرة: 275، وقال رسول الله ﷺ: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه»، وقال: «هم سواء» صحيح مسلم.
فمن عرف الحلال والحرام وما بينهما من المشتبهات وعمل بمقتضاها فقد سلم قلبه وصلح أمره، يقول الرسول ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» أخرجه البخاري.
وهذه: خطبة عن الكسب الحلال وتجنب الحرام
الخطبة الثانية
اللهم لك الحمدُ على ما يسَّرتَ من البيان، ولك الشكرُ على ما أوضحتَ من الحلال والحرام ببرهان، نحمدك في السراء والضراء، ونشكرك في المنشط والمكره، ونستغفرك من كل ذنب وخطيئة، ونتوب إليك توبة نصوحاً لا نكثَ بعدها ولا انحراف.
عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الصادقين، وميّزوا بين الحلال والحرام تمييزَ الموقنين، فإن الحلالَ طيبٌ عاقبته بركة، والحرامَ خبيثٌ عاقبته حسرة، وما اجتمع مالٌ من حرامٍ إلا ذهب ببركته، وأتلف صاحبَه وإن كثر عددُه.
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كما يقع الراعي حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه.
ألا وإن الحلال لا يأتي إلا برضى الله، والحرام لا ينال إلا بسخط الله، فاختاروا لأنفسكم طريق الطهر، ودعوا دروب الزلل والغرر.
هذا، فصلّوا وسلّموا على من جاءنا ببيان الحلال والحرام، نبينا محمد ﷺ، كما أمركم بذلك الملك العلام:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، واغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى، وثبّت أقدامنا على صراطك المستقيم، واجعلنا من عبادك المهتدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقيموا الصلاة.