حين يتَّخِذ الإمام أو الخطيب قرارًا بأن تكون خطبة الجمعة القادمة خاصَّته حول ثمرات الصدقة -مثلا- فإنَّ هذا القرار ليس اعتباطًا؛ وانما جاء بعد ما وجدَهُ بُخل -بعض- المُحيطين، وعكوف -أو تَبَاطُؤ- البعض عن التَّصدق والإنفاق في سبيل الله. وهذا رغم كثرة المحتاجين وتعدد سُبل الإنفاق.
وهنا؛ وفي ملتقى الخطباء والأئِمَّة بموقع المزيد، نحاول أن نسوق ما قد يُثْرِي قلب وعقل وذاكرة الخطيب على المنبر، ليُذَكِّر المسلمين بهذا الفضل العظيم الذي تَبَاطَأُوا فيه. وهذا ما راعيناه عند كتابة وسَرد هذه الخطبة المباركة.
هذه خطبة مكتوبة عن ثمرات الصدقة وفوائدها في الدنيا والآخرة؛ اشتملت على عناصر وتقسيم وتنسيق يُسَهّل من مهمة قراءتها واستيعابها.
كما روعي في الخطبة -من الإمام- الاستشهاد للموضوع من الكتاب والسنة؛ حتى تكتمل -بفضل الله تعالى- واحِدة من أهم الخُطَب التي تُحثّ على الصدقة وتُبيّن فضلها وثوابها وثمراتها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله نحمده، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، وتركنا على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يبتغيها إلا سالك، ولا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم فصل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام؛ أوصيكم ونفسي المخطِئة المذنبة بتقوى الله في السر والعلن، وأحثكم على طاعته وأنهاكم عن معصيته.
الخطبة الأولى
أما بعد؛ يقول ربنا -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
ويقول النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- «الصدقة برهان»، أي أنها دليل على صدق إيمان المتصدق، وعلى صدق إيمان المنفق في سبيل الله -عز وجل-.
أيها الأحبة، إن من مظاهر الإيمان هذا الجانب الإنساني الذي يتحقق به الإنسان المؤمن عندما يستشعر حاجة الناس وأحوال الناس، ويُنفِق في سبيل الله.
الإنفاق في سبيل الله ركن ومدماك أساسي في شخصية الإنسان المسلم.
في كثير من الآيات التي جاءت في القرآن الكريم تُذكَر الصلاة ويذكر الإنفاق في سبيل الله؛ تُذكَر الصلاة وتُذكَر والزكاة.
فمن مظاهر صِدق هذا الإيمان أن يُنفِق الإنسان في سبيل الله، أن يُنفِق لحاجة المسلمين المستضعفين ولحاجة الإنسان المقهور، فيعبر هذا المؤمنون في أنه يدرك حقيقة المال الذي بين يديه بأنه أمانةٌ من الله -عز وجل- قد استودعك إياها بالرزق، ووسع عليك رزقك، وجعل نصيبًا للفقراء في مالك.
أمام هذه الصورة والمعادلة يُنفِق الإنسان في سبيل الله.
ولذلك؛ ليس له مِنَّة على الفقراء، وليس له استعلاء على الفقراء، لأنه يُنفِق من مال الله الذي أتاه، ويُنفِق من رزق الله -تبارك وتعالى- الذي وسَّعه عليه.
نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يُبَيّن لنا في أحاديث كثيرة فضل الصدقة. يقول عليه الصلاة والسلام «اتقوا الله ولو بشق تمرة، فمن لم يستطع فبكلمة طيبة -أو: فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
ولو بشق تمرة، ولو بشيء قليل، يتق الإنسان النار ويتقي مخالفة حرمات الله -عز وجل- بالإنفاق في سبيل الله.
فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
ويقول نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «تبسمك في وجه أخيك صدقة». وسَّع عليه الصلاة والسلام باب الصدقة من الصدقة الحسية إلى الصدقة المعنوية؛ بالكلمة الطيبة تأخذ أجرًا وثوابًا وتتقي الله.
بالابتسامة، وبهذا الخير الذي توزعه بوجهك المشرِق، بوجهك المستنير تُفرِح قلوب الناس وتسعد قلوبهم بكلمة طيبة ووجهٍ بشوش؛ هذا من باب الصدقة.
ثم يتوجَّه نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للتجار، في حديث هام «يا معشر التجار إنه يشهد بيعكم الحلف والكذب فشوبوه بالصدقة». شوبوه: أي أخلطوه بالصدقة.
يعني التاجر الذي يعمل في المال وفي الشركات وفي التجارة وفي العقود وفي كل الصفقات، هو إنسان مسلم مؤمن ومستقيم، ولكن في بعض الأحيان يزل به اللسان، يُخطئ عن غير قصد فتخرج منه كلمات فيها لغو، أو يمكن أن يقع بحلف يمين عن غير قصدٍ منه؛ فوسع لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بابا لعلاج المال من هذه الأحوال. قال «فشوبوه» أي البيع الذي يكون فيه لغوٌ أو حلف غير مقصود «فشوبوه بالصدقة» أي اخلطوا بالصدقة.
فإذا تاجرت؛ بِعت أو اشتريت، تصدَّق في سبيل الله. إذا وسَّع الله -تبارك وتعالى- عليك بعملٍ جديد أو رزقٍ تدفَّق إليك؛ تصدَّق في سبيل الله؛ إذا جاء مال، تصدق في سبيل الله؛ إذا عقَدَّت شراكة وإذا بنيت بناءً، تصدق في سبيل الله؛ إذا اشتريت بيتًا، تصدَّق في سبيل الله.
هذا كله بابٌ من أبواب الخير، يُظهِر فيه الإنسان المؤمن إنسانيته. لأن الصدقة فيها شراكةٌ إنسانية مع المحتاجين ومع الفقراء.
وهنا ينبغي على الإنسان المسلم أن يتحرَّى موضِع صدقته؛ أين يضع صدقته؟ هذا المطلوب من الإنسان المسلم، وخاصة في هذا الزمن.
أن تتحرى، أن تسأل، أن تعرف؛ أين تضع صدقتك، حتى تذهب في طريقها الصحيح.
وسَّع الشرع أبوابًا كثيرة من الإنفاق في سبيل الله.
الصدقة الجارية
الصدقة الجارية التي ترتبط بالإنسان لِما بعد موته عندما يتصدق الإنسان لتعليم القرآن الكريم، لبناء المساجد، لبناء دور الأيتام، لبناء دور رعاية كبار السن؛ هذا كله من باب الصدقة الجارية.
وخاصة التعليم الشرعي وتعليم القرآن وتعليم أبناء المسلمين.
الأوقاف
ومن الأبواب الكبيرة جدًا، والتي -للأسف- نحتاج لإحياء ثقافتها في ما بيننا؛ ثقافة الوقف؛ الوقف بكل أنواعه.
في تاريخ المسلمين؛ أوقف المسلمون أراضٍ وعقارات، وأوقفوا دورًا وأماكن كثيرة، وجعلوا لها شروطًا كيف تُنْفَق.
منهم من أوقَف أراضٍ وجعل نفقتها لرعاية الأيتام. ومنهم من أوقفوا أراضٍ وجعلوا غلَّتها وريعها للتعليم الشرعي، أو إغاثة الملهوف، أو لإعانة الضعفاء أو المساكين أو الفقراء؛ أو جعلوها في بيت مال المسلمين تُنْفَق في مصالح المسلمين العامة، أو لتجهيز جيوش المسلمين، أو لبناء مساجدهم.
هذه الأوقاف ينبغي أن تعود ثقافتها حاضِرةً بين المسلمين، لأنها ترتبط في تثبيت موقعهم الجغرافي والتاريخي وقوتهم وثقافتهم؛ فإذا اندثرت الأوقاف -والعياذُ بالله- أو لو لم يكن للمسلمين أوقاف مكان معين من العالم، فليس لهم وجودٌ ثابت.
ولذلك؛ من سبقنا بَنَوْا المساجد وبَنَوْا المدارس، وجعلوا الأوقاف؛ لأنها ترتبط بوجود المسلمين، واستمرارهم، وقوتهم.
ويأتي بعد ذلك كيف تُدَار هذه الأوقاف لتصبح مُنتِجةً نافِعة للمسلمين.
حفظ المال من الضروريات الخمس
المال -أيها الأحبة- في حياتنا من الكليات الخمس، حِفظ المال من الكليات الخمس.
ففي مقاصد الشريعة الإسلامية، ينبغي على المسلم أن يحفظ أمورًا خمسة؛ هذه سمَّاها العلماء في علم مقاصِد التشريع [الكليات الخمس].
أولا: يجب عليه أن يحفَظ دينه، بالصلاة والصَّوم والزكاة والعِلم وضبط العقيدة والصحبة الصالحة والالتزام بالشرع واتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: أن يحفظ نفسه، أن يداويها وأن يرعاها، وأن يجتنب ما يضر الجسد وما يضر النفس.
ثالثًا: حِفظ العقل؛ أن يحفظ عقله؛ يجتنب المخدرات المسكرات، ويجتنب كل ما يعطل عقله، وبالمقابل يقوي عقله وذكائه.
هذا من متطلبات الشرع، أو من طُلْبات الشرع.
ربعًا: حِفظ الأنساب والأعراض؛ ذا أيضًا أمرٌ مطلوب في الشريعة.
ولذلك؛ فقد حرَّم الشَّرع كل ما يؤدي إلى هَتك الأنساب والأعراض والفضيلة.
خامسًا: من الكليات الخمس التي تتوجه الأحكام الشرعية لحفظها في حياة المسلمين؛ هو المال.
ولذلك؛ يُسأل الإنسان عن ماله، كيف كسبه؟ وكيف أنفقه؟
ثم إن المُسلِم الذي يفهم شرع الله -عز وجل- لا يتعلق قلبه بالمال تعلق الطامعين الجشعين. إنما المال في يده وسيلة ليعمر هذه الدنيا على منهج الله -عز وجل-، ويساعد المحتاج، ويكون في حياته سببا لكل خير، وسببا لكل أمرٍ طيّب.
فالمال لا يأسره، بل هو مقبوضٌ في يده، ينفقه في سبيل الله.
هذا هو الملخَّص الذي ينبغي أن يكون حاضرًا في حياة المسلمين.
للأسف؛ الثقافة المعاصرة نمَّت الجشع والطمع في حياة الناس، فصار الإنسان يُحسَب شأنه بمقدار ما يملك من المال، وينقُص قدره -عِند البعض- بمقدار ما ينقص من ماله، ويأتي إليه الناس راغبين محبين بما لديه من المال، وينفَضُّ عنه الناس -حتى الأقارب- بسبب قِلَّة المال.
وهذا كله -للأسف- بسبب ثقافة الحضارة المعاصرة التي ينبغي أن تكون قائِمة على الأخلاق، والفضيلة، وكرامة الإنسان، والفكر، والثقافة؛ ثُمَّ يكون المال وسيلةً بين يديها.
أيها الأحِبَّة، عِباد الله؛ فلنتصدَّق في سبيل الله ولنجعل حياتنا، كلها، من أولها إلى آخرها، كما بشَّر الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في صنف من الأصناف الذين يظلَّلون بعرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله «ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه».
أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من المتصدقين، ومن المنفقين في سبيل الله.
واقرأ من قول النبي المختار -عليه أفضلُ الصلاة وأطيب السلام- في حديث «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب».
أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله نحمده؛ الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله.
عباد الله؛ اتقوا الله فيما أمر وانتهوا عمّا نهى عنه وزجر. واعلموا أن ربكم قد صلى على نبيكم قديما. قال تعالى -ولم يزل آمِرًا حكيما- تعظيما لقدر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتكريما {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صَلِّ على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا.
الدعاء
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكَفِّر عنا سيئاتنا وتوقنا مع الأبرار.
اللهم عافِنا واعف عنَّا وتُب علينا يا غفار.
اللهم أرِنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ثبتنا على الإيمان، وأمتنا على الإيمان؛ نلقاك وأنت راضٍ عنّا يا أرحم الراحمين.
اللهم تُب علينا توبة نصوحا، تطهرنا بها جسدًا وقلبًا وروحا.
اللهم أحسِن ختامنا، ويَمِّن كتابنا، واجعل إلى الجنة مآلنا.
اللهم يا ربنا، يا إلهنا، يا سامِعًا دعائنا؛ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا مريضا إلا شفيته وعافيته يا رب العالمين.
اللهم فَرِّج عن المسلمين في كل مكان؛ اللهم فرج عن المسلمين في فلسطين وفي سوريا؛ وفرج عن المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها يا رب العالمين.
هَيّئ للمسلمين من أمرِهم رشدا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أقِم الصَّلاة.
خطبة ثمرات الصدقة
ألقاها: فضيلة الشيخ أمين الكردي؛ فجزاه الله خير الجزاء.
فحواها: عظيم دروس وعِبر اشتملت عليها الخطبة؛ فضلا عمَّا جاء من معلومات وجوانِب ولفتات يجب الانتباه إليها حول أمر الصدقة والإنفاق في سبيل الله.
تنويه: الخطبة لم تُوفَّر بصيغة PDF حتى وقته؛ لكِن، إذا أراد أحد الإخوَة الخطبة في ملف بهذه الصيغة فلا يتردَّ في ذلك بالتكرّم بكتابة تعليق يُفيد بذلك، وسوف نعمل على تلبية ما يطلب -إن شاء الله- في أسرَع وقْت.