أحضَرت لكم —إخواني الخطباء— خطبة تهز القلوب مكتوبة؛ تحت عنوان: سل الله العافية. وهي —كما يظهر من عنوانها— فهي عن موضوع الحفاظ على نعمة الصحة والعافية، وشكر الله المُنعِم ﷻ على هذه النِّعَم العظيمة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، قال وهو أصدق القائلين على لسان نبيه إبراهيم: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرحم الراحمين وخير الحافظين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، خير خلق الله أجمعين، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—؛ فإن في التقوى سلامة الحال، وحسن العاقبة في المآل ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: إن من أعظم النعم التي تستوجب الشكر نعمة الصحة، وقد يغفل الإنسان عن قيمة هذه النعمة وعظمتها، حتى إذا ما مرض شعر بها وعرف قيمتها، وعلم أنه فقد نعمة كبيرة كان لا يجعل لها البال الذي تستحقه، فقد كان يتحرك ويحرك يديه، ويمشي برجليه، وينظر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويستعمل سائر أعضائه بيسر واقعا في نفسه أن ذلك شيء عادي، فإن أصيب بحمى أو شيء من الأمراض الخفيفة التي تجعله لا يتحرك كما كان يتحرك، ولا يستعمل أعضاءه كما كان يستعملها، تبين له أن النعمة التي هو فيها نعمة عظيمة، ومنحة من الله كريمة.
وقد يدرك من يغفل عن عظمة هذه النعمة قيمتها إذا رأى غيره وهو لا يرى، أو لا يستطيع أن يحرك يده أو يمشي على رجليه، أو فيه شيء من العاهات التي يعسر علاجها وذهابها، ولذلك قال النبي ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «مغبون فيهما كثير من الناس» أنه لا ينتفع بالصحة والفراغ أمثل الانتفاع كثير من الناس.
وانظروا — عباد الله — نظر المتدبر في قوله ﷺ: «مغبون فيهما كثير من الناس»؛ فإن فيه دلالة على أن الذين لا يعمرون أوقاتهم بالنافع ولا يثمرون صحتهم في المفيد كثيرون، ولو عمر كل إنسان وقته فيما ينفع واستعمل نفسه في صحته فيما يفيد لكان للإنسان شأن آخر؛ إذن لكثر الخير، وعظم الإنتاج، وارتفع مقام الأفراد والمجتمعات، فما تلك الأمم التي ارتقت إلا أفراد عرفوا قيمة الصحة والوقت فجدوا واجتهدوا وصبروا وصابروا وأخلصوا النية، حتى بلغوا الغاية ووصلوا إلى القمة ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾.
والعاقل من يتذكر أن الصحة يأتي بعدها السقم، والفراغ يعقبه الشغل، ولا شك أن المريض لا يستطيع عمل ما كان يعمله وهو صحيح، والمشغول لا يمكنه أن يقوم بما كان يقوم به وهو فارغ؛ ولذلك قال النبي ﷺ: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
وهذا نبينا الكريم ﷺ يذكرنا بمنزلة نعمة العافية؛ فتجده يجيب سائله الذي سأله عن شيء يسأله الله تبارك وتعالى؛ فيقول له: « سل الله العافية »، فمكث ذلك السائل أياما، ثم عاد إلى النبي ﷺ فسأله مرة أخرى أن يعلمه شيئا يسأله الله؛ فقال له النبي ﷺ مرة أخرى: « سل الله العافية في الدنيا والآخرة»، وقام أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — مرة خطيبا على منبر رسول الله ﷺ ثم بكى فقال: قام رسول الله ﷺ عام الأول على المنبر، ثم بكى أبو بكر فقال: “سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية“.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
وهنا: خطبة عن نعمة الصحة والعافية
الخطبة الثانية
الحمد لله على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه ذوي المكارم والأفضال.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—، وليعلم الإنسان أنه مأمور أن يحافظ على صحته؛ فإنها أمانة من الأمانات التي سيسأل عنها.
وقد أمرنا الإسلام بالتداوي عند المرض وطلب العلاج، ومن حض النبي ﷺ على ذلك قوله: «تداووا عباد الله؛ فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء»، وينبغي للمريض أن يبادر إلى عرض نفسه على الطبيب.
وقد قيل: من أخفى داءه صعب شفاؤه.
وحسن الظن بالله خير معين على الشفاء؛ فإن الله هو الشافي وحده لا شريك له، وهو القائل على لسان خليل الرحمن عليه السلام: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، وفي الحديث القدسي يقول الله ﷻ: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء»، فمن ظن بالله خيرا وجد خيرا، وإن من أحسن ما قيل في الحكمة في هذا المعنى قولهم: “الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أول خطوات الشفاء”.
وليجتهد — عباد الله — المريض في دعاء الله أن يشفيه، ولا ينبغي أن يترك دعاء الله بالشفاء، أو أن يسأل الله دوام البلاء؛ فإن خير الخلق — وهم الأنبياء — قد سألوا الله أن يرفع عنهم الضر ويشفيهم من المرض.
وقد ذكر الله أيوب عليه السلام بقوله: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ | فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.
وقد عاد النبي ﷺ مريضا ضعف من شدة المرض، فقال له: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟»، قال: نعم، كنت أقول: “اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا”، فقال رسول الله ﷺ: «سبحان الله! لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»، فدعا الله له فشفاه.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد؛ فقد قدَّمنا لكم -أيها الأكارم الفضلاء- خطبة تهز القلوب مكتوبة —وقد اخترت شخصيًا لها هذا الوصف—؛ وهي بعنوان: سل الله العافية. وقد تروق لكم أيضًا خطبة عن لذة العبادة. نسأل الله ﷻ الكريم المتعال أن ينفعنا بالعلم النافع؛ اللهم آميـن.