تشوُّقًا، نخبركم بداية الآن وفورًا بأن لدينا خطبة جمعة بعنوان: تفريج الكربات (فضائل وثمرات). هذا العنوان مُلْفِت.. أليس كذلك؟ فما بالك بالمحتوى العظيم البليغ الذي يندرج تحته ويُساق في طيَّاته! أعتقد أنَّك متشوّق الآن لما في هذه الخطبة من المواعِظ العظيمة والإرشاد البليغ والحِكَم والرسائِل الرّبَّانية الكبيرة.
لن أُطيل عليكم كثيرًا؛ بل أنني قد انتهيت من مُقدِّمتي؛ فهل أنتم على استعداد للاطلاع على الخطبة؟ إذا كانت إجابتك “نعم”؛ فأكمِل القراءة.. فها هي خُطبة الأسبوع بين يديك الآن، مكتوبة، كاملة، جاهزة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين؛ نحمده ﷻ فهو أهل للحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره. فأهل أن يحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق فابتلاهم بدينه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله ﷻ للناس بالنور المبين، والسراج المنير؛ ليدلهم على الصراط المستقيم؛ فبلغ وأدى ونصح وبشر وحذر وأنذر، فلا حجة لمعرض، ولا عذر لمقصر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
الإسلام هو دين الرحمة، إنه الدين الذي يُصلحُ أمر الناس في الدنيا والآخرة، ليفوزوا بالجنة عند الله ﷻ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، قال ﷻ: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة: ١٦٣، ورسولنا ﷺ، هو رسول الرحمة المُهداة، الذي بعثه الله ﷻ رحمةً للعالمين، وأماناً للخلق أجمعين، فقال ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: ١٠٧.
لذلك؛ كانت ثمرة الإيمان بالله ﷻ، وبرسوله الكريم ﷺ، أن تتجلى صفة الرحمة في المؤمنين الذين يتأسون بخلق نبيهم ﷺ، حتى تصبح هذه الصفة الكريمة مبدأً راسخاً في المجتمع الإسلامي، تتعزز من خلاله أواصر الأخوة بين الناس، فيصبح المجتمع مجتمعاً منسجماً تسود فيه أجواء التراحم والتعاطف والمودة والتفاؤل، لذلك دعا الإسلام إلى تلمس حاجات الآخرين وتفقد أحوالهم، وتطييب نفوس المهمومين وجبر خواطر المكروبين، قال ﷺ: «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» — رواه مسلم.
فالمسلمون في المجتمع جسد واحد، وتعاطف أفراده وتراحمهم انعكاس وتجسيد لروح المحبة والتعاون التي أمر بها الإسلام، قال ﷻ:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الحجرات: ١٠.
ولا شكّ أن أجر تفريج الكُربات عن الناس عظيم عند الله ﷻ، لأن المُسلم عندما يبذل المعروف لإخوانه، فإنه يتخلى بذلك عن أنانية الذات، وطمع النفس، إلى حبّ الخير وبذل المعروف للآخرين، فيصبح إنساناً ربّانياً يحبّه الله ﷻ ورسوله الكريم ﷺ، وهو بتنفيذ هذا الأمر الإلهي العظيم، يحقق مظهراً من مظاهر التعاون على الخير والبر والتقوى الذي هو قوام الحياة، يقول ﷻ: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ سورة المائدة: ٢.
يقول القرطبي: “وَهُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَيْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا”، فبهذا التعاون يشعر الغني بالدفء والسلام الروحي المُستمد من الإيمان والشعور بظروف الفقراء وحاجاتهم، ويشعر الفقير بدفء المُجتمع الذي ضمّه ولم يتركه وحيداً ليصارع ظروف الحياة القاسية، فيشعر بذلك بأنه عزيز كريم وأنه عنصر مهم في المجتمع، يقول النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» — صحيح مسلم.
ويقول ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» — صحيح مسلم.
ومما لا ريب فيه أن المسلم الذي يبذل المعروف للناس ويجبر خواطرهم، ويقيل عثراتهم، ويفرج كرباتهم، قد يمنع ارتكاب جريمة، أو هدمِ أسرةٍ، أو حدوث مشاجرة أو خصومة، بل هو صانع للسعادة في قلوب الناس، بالكلمة الطيبة التي تجبر الخاطر، أو الصدقة التي تسدّ الحاجة، أو الفعل الذي يُشعر بالأخوة والتكاتف.
لذلك كان أجر بذل المعروف والخير والصدقة في المجتمع عظيماً عند الله ﷻ، ينعكس على صاحبه في الدنيا والآخرة، يقول النبي ﷺ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» — سنن الترمذي.
فأما أجر تفريج الكربات وبذل المعروف في الدنيا فإن صاحب المعروف الذي يسعى في حاجات الناس، يتجلى في قلبه تقوى الله ﷻ ومحبته، لذلك فإنه يبلغ بذلك البذل درجة المجاهدين في سبيل الله، والعابدين الذين لا يفترون عن العبادة، يقول النبي ﷺ: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، – وأحسبُه قال – وكالقائمِ لا يفتُرُ، وكالصائمِ لا يفطر» — صحيح البخاري.
وصاحب المعروف، تتعاظم محبته في قلوب الناس، ويرتفع شأنه، ويعظم قدره، لذلك فإنه يجد له عوناً وسنداً من محبة الناس عند الحاجة، يقول ابن عباس رضي الله عنه: “صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئا”.
الناس للناس مادام الوفاء بهم
والعسر واليسر أوقات وساعات
وأكرم الناس ما بين الورى رجل
ُقضي على يده للناس حاجات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر والأيام تارات
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
وأيضاً فإن البذل والعطاء، وتفريج كربات الناس سبب للنماء والزيادة في الرزق، يقول النبي ﷺ «ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» — صحيح البخاري.
ومعنى دعاء النبي ﷺ «اللهم اعط منفقاً خلَفاً» أن الخلف هو العوض الذي يكافئ به الله الغني الكريم عباده المنفقين، فقد يكون هذا العِوضُ صلاحاً في الأهل والأبناء، أو بركة في العُمر مع التوفيق إلى حُسن العمل، أو هدايةً وتوفيقاً إلى أبواب الخيرات، أو انشراح صدر وراحة بال وسكينة قلب، يقول ﷻ: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ السجدة: ١٧.
وهنا خطبة: أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
عباد الله: إن أهل المعروف في الدنيا، هم أهل الكرامة عند الله ﷻ، وهم أهل المعروف في الآخرة الذين لهم حُسن الخاتمة عند الممات، وتتلقاهم الملائكة طيبين، ويظهر الله ﷻ كرامتهم في يوم الحساب على رؤوس الأشهاد، يقول النبي ﷺ: «صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ، و أهلُ المعروفِ في الدنيا همْ أهلُ المعروفِ في الآخرةِ» — رواه الطبراني.
وأما في يوم القيامة الجزاء عند الله ﷻ هو تفريج الكربات العظيمة يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تكثر فيه الأهوال، حتى قال الله ﷻ فيه: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس: ٣٤-٣٧، في هذا الموقف العظيم، والكرب العميم، تتنزل رحمة الله ﷻ على الذين كانوا يرحمون الناس في الدنيا، ويبذلون الخير والمعروف لهم، فهم الذين وعدهم الله ﷻ بالسعادة التامة، والطمأنينة الدائمة فقال الله ﷻ فيهم: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ الأنبياء: ١٠٣، وهم الذين وعدهم الله ﷻ بالأمن من كل خوف، فقال ﷻ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ النمل: ٨٩.
وكذلك فإن الصادقين مع ربهم، الذين يتصدقون بأموالهم، ويفرجون الكربات عن إخوانهم، يحشرهم الله ﷻ يوم القيامة في ظلال صدقاتهم، في يومٍ تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، يقول النبي ﷺ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» — مسند الإمام أحمد.
إن المسلم ليتحسّر يوم القيامة على كلّ لحظة من لحظات حياته لم يبذل فيها معروفاً، أو يتصدق بصدقة تنجيه عند الله ﷻ، يقول الله ﷻ: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ المنافقون: ١٠.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» — رواه الترمذي.
وقال ﷺ: «من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح» — رواه أبو داود.
وصَلّ اللهُم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد؛ فكانت هذه يا إخواني؛ خطبة: تفريج الكربات (فضائل وثمرات). وهنا أيضًا لا يفوتكم الاطلاع على خطبة: الاستجابة لله ولرسوله.. وثمراتها. سائِلا المولى الرحيم الكريم ﷻ أن يوفّقني وإياكم لكل خير.