عناصر الخطبة
- الذكر من أعظم الأعمال والقربات إلى الله ﷻ.
- الذكر هو العبادة التي أمرنا الله ﷻ بالمداومة عليها ليسرها وسهولتها.
- الذكر عبادة مطلقة لا تنحصر في صيغة واحدة.
- الذكر أنواع كثيرة لا نوع واحد، فالقرآن الكريم ذِكر، والصلاة ذكر، والتسبيح ذكر، والتهليل ذكر، والصلاة على النبي ﷺ ذكر.
- الذكر هو المُنقذ من المهالك وهو الحصن الحصين للذاكر.
- ذكر الله ﷻ له آثار حميدة كثيرة على الأفراد والمجتمع.
الخطبة الأولى
لقد أمرنا الله ﷻ في هذه الأيام الفضيلة بالذكر، وحث عليه، يقول الله ﷻ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]، وقال ﷻ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
الذكر طاعة وعبادة من العبادات، وهو ليس بحاجة لسفر ولا لجهد بحيث لا يقدر عليه إلا الشباب، بل هو عبادة بمقدور الجميع الإتيان بها، الكبير والصغير المسافر والمقيم المريض والمعافى وفي جميع الهيئات، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
والذكر هو العبادة التي أمرنا الله ﷻ بالإكثار منها، ولم يحصرها الكتاب والسنة في لفظ معين، يقول ﷻ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾،. فعن أبي ذر رضي الله عنهُ قال: قال لي رسول الله ﷺ: «ألا أُخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ إن أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده».
فالذكر فيه طمأنينة القلب وراحة البال وسكينة النفس، لأنه يربط المؤمن بخالقه سبحانه، قال الله ﷻ: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ومن عظيم مكانة الذكر وفضله تجد أنه ارتبط بأغلب أركان الإسلام، ففي ركن الصلاة قال الله ﷻ ﴿فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله﴾، وفي ركن الصيام قوله ﷻ: ﴿ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون﴾، وفي ركن الحج قال ﷻ: ﴿فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله﴾.
والذكر أنواع كثيرة لا نوع واحد، فالقرآن الكريم ذِكر بحروفه وكلماته وآياته، قال الله ﷻ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله ﷺ: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف».
والصلاة ِذكر، قال الله ﷻ: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ والعلم ذكر، والتسبيح والتحميد والتهليل ذِكر والصلاة والسلام على النبي ﷺ ذِكر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوْا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يُصلّون كما نُصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموالٍ، يحجّون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، فقال: «ألا أُعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به مَن بعدكم ولا يكون أحدٌ أفضل مِنكم إلا مَن صنع مثّل ما صنعتُم؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تُسبحون وتُحمدون وتُكبرون خلف كّل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين».
إنَّ الذكر هو المُنقذ من المهالك وهو الحصن الحصين للذاكر قال ﷺ: «وآمركم أن تذكروا الله، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصنٍ حصين فأحرز نفسهُ منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ﷻ»، وقوله ﷺ: «إن لكل شيء صقالة وإن صقالة القلوب ذكر الله ﷻ وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله».
فحقيقة الذاكر أن يكون مُطيعاً لله ﷻ، رادعاً لصاحبَهُ عن المعصية ذلك لأن الذاكر الذي يديم ذكر الله ﷻ في كل أحواله فإنهُ يعلم بأن الله مطلعٌ عليه، وأنه يعلم السر وأخفى، وتجده يشغل نفسه بالذكر عن المعصية والقلب السليم لا يمكن أن يجمع بين الضدين، فنجد أثر الذكر على سلوك الذاكر فلا تراه إلا عابداً مُطيعاً منيباً لربه ﷻ مُسارعاً للخيرات ومنكراً للمنكرات ولقد خرج الرسول ﷺ على حلقةٍ من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ﷻ ونحمدهُ على ما هدانا للإسلام ومَنَّ علينا بكَ، قال آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تُهمةً لكم، و إنهُ أتاني جبريل فأخبرني أن الله ﷻ يُباهي بكم الملائكة».
وليس الذِّكر باللسان فقط، بل ذكر القلب يكون بخشوعه وتضرعه وخضوعه، وتقوى الله وخشيته، وذكر الجوارح بالتزام أحكام شريعةِ الله ﷻ، ويظهر أثر ذلك في سلوك العبد وممارساته العملية في المجتمع فالِذكر ليس عدّا على السبحة ويكون أحدنا هاجراً لأخيه أو جاره وبعضهم لربما هاجراً لوالديه، الذِكر ليس هذرمة لسان إنما امتثال للواحِد الدّيان.
وأيسر عبادة يقوم المسلم بها ذكر الله، فعلينا أن نكثر من هذا الخير، فالذكر تجارة رابحة لا يعمر سوقها إلا المخلصون وإنَّ ذكرك لله ﷻ سبب لذكر الله لك قال ﷻ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾.
وهنا المراد أن الله يثني عليك في الملأ الأعلى ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه انه قال: قال النبي ﷺ: «يقول الله ﷻ: أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيراً منه وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
وأيُّ كرامةٍ أكبر من أن يذكرك الله أما سمعت ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ لأُبيّ: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال آُبيّ: الله سماني لك قال: «الله سماك لي»، فجعل أُبيّ يبكي.
هذا بالإضافة إلى أن الله ﷻ يكن معك فمعية الله تلازمك أيها الذاكر فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن الله ﷻ يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركتّ بي شفتاه».
حتى إن الله ﷻ حين امتدح الرجال قال عنهم: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾، وحين امتدح البيوت وجعل لها مقاماً عنده ﷻ قال فيها: ﴿في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه، يُسبح له فيها بالغدو والآصال رجال﴾.
والذكر خير أعمال الجوارح فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم!». قالوا: بلى، قال: «ذكر الله».
⬛️ وهنا خطبة: مفهوم العمل الصالح وفضائل العشر – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: اجعلوا ألسنتكم رطبةً بذكر الله فذكرُ الله تطّمئنّ لهُ القلوب وهي بحاجةٍ ماسّة في هذهِ الأيام إلى أن تكون معلّقة بِخالِقها، لِقولِه ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾.
نحتاج أن نترجم الذكر وثمراته على ذواتنا بالانشغال بالذكر، بل على أسرنا كذلك، ذلك لأنّ الغفلة عن ذِكر الله ﷻ أمرٌ شديد الخطورة، قال الله ﷻ: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، لا بل إن العقاب الدنيويّ والذي يلحظه كل واحدٍ منا في هذهِ الأيام من ضنك العيش يرجع سببه للإعراض عن ذكر الله والبعد عن الدعاء، هو البعد عن الله، يقول ﷻ: ﴿ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾.
هذا الإعراض من حيث أثره على أرض الواقع في دنيانا ومعاشنا، كذلك له أثره وأبعاده على قلوبنا، وهو يعالج ما نعانيه من أحقاد وآفات وهموم وغموم، فالذكر له الدور الكبير في تقويم حياة الإنسان وإعادة توازنه، فانظروا إلى قول النبي ﷺ عن أثر الاستغفار على العباد إذا عند دوام الملازمة، فقال ﷺ: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب»، وكذلك قوله ﷺ للصحابي الذي جعل كل ذكره في الصلاة على رسول الله ﷺ قال له: «إذن تكفى همك ويغفر ذنبك».
فالذكر إيمان على إيمان وزيادة إيمان على إيمان بأن يظل اللسان رطباً بذكر الله.
اللهم اجعل قلوبنا مطمئنة بذكرك وألسنتنا شاكرة لنعمك التي لا تعد ولا تحصى حتى نلقاك ربنا.