مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ الَّذِي امتَنَّ عَلَى العِبَادِ بِالْأَوْلادِ، وَجَعَلَهُمْ ذُخْرًا لِيَوْمِ المَعَادِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، الهَادِي إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِمَامُ المُرَبِّينَ، وَخَيْرُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِتَرْبِيَةِ النَشْءِ مُعْتَنِينَ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَقْوَى مَنْ عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، فَقَادَهُ ذَلِكَ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ المُوصِلِ إِلَى جَنَّتِهِ، وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا المُرَبُّونَ- أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَى الإِنْسَانِ نِعْمَةَ الأَوْلادِ، وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُهُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَهذِهِ النِّعْمَةُ امْتِنَانٌ مِنَ اللهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)، وَسَمَّاهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- فِي كِتَابِهِ زِينَةً، لأَنَّهُمْ يَمْلَؤُونَ عَيْشَكَ رَاحَةً وَطُمَأْنِينَةً، وَأُنْسًا وَسَعَادَةً (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، إِنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ هِيَ وَسِيلَةُ اختِبَارٍ لِلإِنْسَانِ؛ أَيَقُومُ بِحُقُوقِهَا مِنْ تَرْبِيَةٍ وَتَنْشِئَةٍ صَالِحَةٍ، أَمْ يَنْسَى دَوْرَهُ فِي أُسْرَتِهِ، وَيَشْتَغِلُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبِهِ.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: مَا دَامَ الأَوْلادُ بِهَذِهِ الأَهَمِّيَّةِ، وَالفَضْلِ وَالمَزِيَّةِ، فَقَدْ لَزِمَ الاعْتِنَاءُ بِهِمْ، وَالتَّنَبُّهُ لِشُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ المُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، وَالتَّقْصِيرُ فِي تَرْبِيَتِهِمْ تَقْصِيرٌ لا يُحْمَدُ، وَبِمَا أَنَّهُمْ نِعْمَةٌ فَإِنَّ شُكْرَهَا وَاجِبٌ، شَأْنُهَا فِي ذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ النِّعَمِ، وَالحِسَابُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِمْ شَدِيدٌ، وَهُمْ أَمَانَةُ اللهِ فِي أَيْدِينَا، وَأَيُّ مُقَصِّرٍ فِيهِمْ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الأَمَانَةِ الَّتِي ائْتَمَنَهُ اللهُ عَلَيْهَا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْأَوْلادِ بِهَذِهِ الأَهَمِّيَّةِ وَالخُطُورَةِ، فَإِنَّ عَلَيْنَا السَّعْيَ الدَّؤُوبَ لِشُكْرِ النِّعْمَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ شُكْرُها؟ إِنَّ مِنْ وَسَائِلِ شُكْرِ النِّعْمَةِ الدُّعَاءَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللهُ أَوْلادَنا قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا، قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، فَمَا أَعْظَمَ أَنْ يَكُونَ أَوْلادُكَ مَوْضِعَ رَاحَتِكَ، وَمَوْئِلَ سَعَادَتِكَ، وَكَنَفَ طُمَأْنِينَتِكَ!
فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللَّهِ -، وَلْيَكُنْ أَوْلادُكُمْ مَوْضِعَ اهْتِمَامِكُمْ وَقُرَّةَ أَعْيُنِكُمْ وَسَعَادَةَ عَاقِبَتِكُمْ.
أقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن تربية الأبناء والعمل على إصلاح أحوالهم
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ الَّذِي غَرَسَ فِينَا مُرَاقَبَتَهُ، وَحَضَّنَا عَلَى بُلُوغِ جَنَّتِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَفَّقَنَا لِبِرِّهِ وَطَاعَتِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ المُرَبِّينَ، وَإِمَامُ المُصْلِحِينَ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاتَّبَعَ هُدَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ لِكُلِّ مُشْكِلَةٍ عِلاجًا، وَلِكُلِّ خَطَأٍ حَلًّا، وَإِنَّ مِنْ أَوْجَبِ مَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الأَمْرِ غَرْسُهُ فِي أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ – لِيَتَدَارَكَ شَأْنَهُمْ وَيُحْسِنَ تَرْبِيَتَهُمْ – مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى – وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْرِسَ فِي وَلَدِهِ مُرَاقَبَةَ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَتَجِدُهُ مُسَارِعًا إِلى الصَّلَوَاتِ وَمُعْتَنِيًا بِوَاجِبَاتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُتَابِعٌ لَهُ، لِيَتَرَبَّى عَلَى اسْتِحْضَارِ مُرَاقَبَةِ اللهِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الإِحْسَانُ الَّذِي عَرَّفَهُ المُصْطَفَى ﷺ بِقَولِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، فَإِذَا مَا نَجَحَ الإِنْسَانُ فِي غَرْسِ أَمْرِ المُرَاقَبَةِ يَسُرَ عَلَيْهِ أَمْرُ وَلَدِهِ، وَبَاتَ لا يُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا إِنْ عَلِمَ رِضَا المَوْلَى سُبْحَانَهُ عَنْهُ، فَإِنْ جَهِلَ الحُكْمَ سَأَلَ.
أَمَّا أَنْ يَغْرِسَ فِي الْوَلَدِ خَوْفَ الأَبِ دُونَ احْتِرَامِهِ، أَوْ خَوْفَهُ دُونَ خَوْفِ اللهِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ مُشْكِلاتٌ شَرْعِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ يَجِبُ أَنْ تُحَلَّ، وَمَا أَجْمَلَ المُجْتَمَعَ الَّذِي تُحَرِّكُهُ مُرَاقَبَةُ اللهِ -يَا عِبَادَ اللهِ-، فَإِنْ فَعَلَ أَمْرًا فَلِأَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ، وَإِنِ انْتَهَى عَنْ أَمْرٍ فَلِأَنَّهُ يُغْضِبُ اللهَ، وَهَكَذَا يَحْرِصُ الكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ فِي هَذَا الوَطَنِ المِعْطَاءِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَبِنَةً صَالِحَةً، بَدْءًا بِنَفْسِهِ، وَمُرُورًا بِذُرِّيَّتِهِ، وَانْتِهَاءً بِمُجْتَمَعِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَلْيَكُنْ نَافِعًا لِلنَّاسِ مُعِينًا لَهُمْ؛ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ – كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ – أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ.
فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللَّهِ -، وَعَلَيْكُمْ بِإِصْلاحِ أَنْفُسِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ لِيَهْنَأَ بَالُكُمْ، وَتَسْعَدَ حَيَاتُكُمْ، وَتَجِدُوا مِنَ اللهِ كُلَّ تَوْفِيقٍ.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إمَامِ الْمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدٍ الهَادِي الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.