بوصف: خطبة تدمع لها العين. وقع اختياري؛ وهو الوصف -الذي أعتقد أنه- المناسب لخطبة اليوم؛ وهي: القلب وخطورة أمراضه. فما رأيكم إخواني الخطباء أن
عناصر الخطبة
- القلب وعاء التقوى وهو موضع نظر الله ﷻ، فينبغي للمسلم الحرص على إصلاحه.
- معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين، والمسلم قلبه سليم من أمراض الشبهات والشهوات.
- القلوب القاسية والمريضة بالمعاصي شفاؤها التوبة وجلاؤها الإكثار من ذكر الله ﷻ وكمال محبته.
- الحرص على سلامة القلب هو سبب النجاة، وسبب الخلود في جنات الله ﷻ.
الخطبة الأولى
يقول النبي ﷺ «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، فالقلب وعاء التقوى الذي أشار إليه النبي الكريم ﷺ، إذ قال: «التقوى ههنا»، وأشار إلى صدره ثلاث مرات، وهو موضع نظر الرب ﷻ، ففي الحديث عن المصطفى ﷺ قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم»، فحري بالمسلم أن يهتم بموضع نظر الله جلّ وعلا وتزيينه قبل أن ينظر لزينة ملابسه ومظهره الخارجي، فبصلاح القلب يصلح البدن كله، وبقساوته يفسد البدن، فلا بد في هذا من محاسبةٍ تَفتح مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً، إن في القلوب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلمّ شعثها إلا حفظ الجوارح، واجتناب المحرمات، واتقاء الشبهات.
فمعرفة القلب مِن أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين، معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذرَ من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله؛ فهو مقلب القلوب والأبصار، جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، كان يقول في دعائه: «اللهم مصرفَ القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»، وفي رواية: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، وقد كان النبي صلى لله عليه وسلم يكثر من دعائه بذلك.
فمن استسلم لشيء من ذلك فقد اتبع هواه وأعرض عن مولاه، قال ﷻ: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
نعم إخوة الإيمان: ينتاب القلب أمراضٌ حسيّة وأمراضٌ معنوية، فالأمراض الحسيّة قد تؤدي إلى الموت إن لم يتداركها صاحبها بالعلاج، وأما الأمراض المعنوية فهي أشد خطورةً تؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾، والأمراض الملمّة بالقلوب كثيرة، من أخطرها اتباع الشهوات والشبهات وللأسف فإن الناس في هذا الزمان يهتمون بعلاج الأمراض الحسيّة أكثر من اهتمامهم بالأمراض المعنوية.
فشهوة النّفس مع الذنوب
موجبتان قسوة القلوب
فالقلب المريض، قلب له حياة، وبه علَّةٌ، فإن غلبت عليه محبة الله ﷻ والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه كانت له الحياة، وأما إن غلبت عليه محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، ومحبة غير الله، والخشية من غيره سبحانه، واستوطنت فيه قلبه آفات الحسد والغيرة والكِبر والعُجب واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم حتى أوشك أن يصير من القلوب الميتة والعياذ بالله ﷻ.
كما إن أبعد الناس من رحمة ربنا الرحيم، صاحب القلب القاسي، لخبر الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله، قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
وإن من أبعد قلوب الناسِ
من ربِّنا الرحيم قلب قاسي
عباد الله: القلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه بالتوبة، والقلب يصدأ كما تصدأ الحديد وجلاؤه بالذكر لما جاء في الحديث عن النبي ﷺ: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟، قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن»، فينبغي للمسلم أن يواظب على قراءة القرآن وتدبره وفهم معانيه، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ودوام ذكر الله على كل حال، وانكسار القلب بين يدي الله ﷻ، عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان» ، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد» سنن ابن ماجه.
والقلب يعرى كما يعرى الجسم ولباسه التقوى، والقلب يظمأ ويجوع كما يظمأ ويجوع البدن وطعامه وشرابه معرفة بالله ومحبته والتوكل عليه.
ومن وسائل علاج القلب مما ينتابه من آفات وأمراض الإخلاص لله ﷻ بالقول والعمل فأخلصوا لله ﷻ في أعمالكم، وستجدون راحة في صدوركم، ولذلك يقول الله ﷻ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾، ثم بحسن المتابعة، بأن يكون عمله واعتقاده وفق ما أمر الله ورسوله، يقول الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
ومن أساليب علاج أمراض القلب وتطهيره مما يعلق به من آفات، هو الممارسة العملية لتطهير هذا القلب من خلال فعل الخير ونشره في المجتمع فإن من يخالط الفقراء ويطلع على أحوالهم ويتلمس احتياجاتهم، ويشعر بمعاناتهم، ويمدّ لهم يد العون والمساعدة، فإنه بذلك يطهر قلبه من الحقد والحسد والكِبر والخُيلاء، وكذلك إفشاء السلّام؛ فإنّ لإفشاء السّلام علاقةً بانتشار الحُبّ بين النّاس وإزالة الحِقد والبغضاء من قلوبهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفْسي بِيدِهِ، لا تؤْمِنوا حتى تَحابُّوا، ألا أُنبِئُكُم بأمرٍ إذا فعَلتُموه تَحابَبْتُم؟ أفْشوا السّلامَ بَينَكُم»..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 102.
إخوة الإيمان: ينبغي أن نحرص على سلامة القلب حرصاً لا حدود له لأنه سبب النجاة، وسبب الخلود في جنات الله، فينبغي أيها الأخوة أن نحرص حرصاً لا حدود له على سلامة قلوبنا، فنقوم بكل ما يعيننا على لين القلب من ذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، ونبتعد كل البعد عن كل ما يساهم في قسوة القلب، ومنها ما ذكره النبي ﷺ في الحديث: «لا تكثروا الكلام بغير الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
ونقص على من ابتلي بشيء من ذلك بما أخرجه النسائي أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله ﷺ فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي ﷺ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي ﷺ مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى، فلما قام تبعه عبد الله عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فقال: إني لاحيت (أي خاصمت) أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت؟ قال: نعم قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تنبه من نومه، وتقلب على فراشه ذكر الله حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله: إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله ﷺ يقول ثلاث مرار: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، وطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فاقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ﷺ؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله: لما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي والله التي لا نطيق».
والحمد لله رب العالمين..
ما رأيكم بخُطَب أكثر؟