ها نحن إخواننا الخطباء والوُعَّاظ الأكارم مع خطبة الجمعة القادمة -إن شاء الله-، والتي تأتيكم تحت عنوان: تحويل القبلة وعلاقته بمفهوم ومقاصد الإسلام. نسوقها لكم مكتوبة جاهزة لإلقاءٍ مُحْكَم، يليق بالأئمة والخطباء الأجِلاء.
تأتيكم هذه الخطبة من ملتقى الخطباء وصوت الدعاة بموقع المزيد؛ آملين أن تنال استحسان الجميع، وأن ينتفع بها كل مسلم.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تنجي قائلها من عذاب النار يوم القيامة. وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه. بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين أصولا، الزاكين أعراقا؛ وسلم يا رب تسليما كثيرا طيبا مباركا رقراقا.
أما بعد؛ فاتقوا الله وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
الخطبة الأولى
الأحبة في الله؛ من أحداث التشريع الإسلامي حدثٌ حصل في شهر شعبان. فيه من الدروس والعبر لأهل الإيمان. ففي أحداث السيرة النبوية مواقِف جعلها الله اختبارًا وتمحيصًا للصفوف.
تحويل القبلة
ومن المواقف الجليلة والفاصِلة في تاريخ الأمة حادثة تحويل القبلة من بيت الله المقدس إلى المسجد الحرام.
وذلك أنه لمّا هاجر حبيبنا ﷺ إلى المدينة، كان أهلها اليهود. أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود بذلك، لأنه قِبلتهم. فاستقبلها رسول الله ﷺ بِضعة عشر شهرًا. لكن النبي ﷺ كان يُحِب قِبلة إبراهيم “عليه السلام”. فكان يُكثر من الدعاء ويتضرَّع بالابتهال إلى الله ﷻ فأنزل الله قوله ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
نعم. لقد جاء الأمر بتحويل القِبلة، ليُعلن الله بذلك بداية اختبار جديد. فقال -عز شأنه- ﴿لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه﴾. فوحدوا الله.
نزل الأمر بتحويل القبلة. فخَطَب رسول الله ﷺ المسلمين، وأعلمهم بذلك. حتى وصل خبر تحويل القبلة لأهل قباء في صلاة الفجر من اليوم الثاني. إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن. وقد أُمر أن الكعبة فاستقبلوها، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشَّام، فاستداروا إلى الكعبة. وروى ذلك لنا عمارة بن أوسٍ فقال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس… تخيلوا الصورة؛ هل كانوا وقوفا؟ لا والله. لو كانوا وقوفا واستداروا لكان الأمر يسيرا. لكنه قال: جاء الأمر بتحويل القبلة ونحن ركوع. تخيلوا الصورة! وهم ركوع، في حال الركوع. إذ أتى منادٍ بالباب، أن القبلة قد حُولت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا -في هذه الرواية لم يذكر لنا اسم هذا الإمام- = أنه انحرف -يعني تحول- فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة.
ما الدلالة في هذا الأمر أيها الإخوة؟ الدلالة في هذا الأمر أن هذا هو شأن المؤمنين الصادقين. ما دام قد قال الله وما دام قد أمر رسول الله؛ فلا اجتهاد، فلا كلام، لا تقديم لرأيٍ ولا لعقلٍ على كلام الله وكلام رسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
استداروا وهم ركوع، لم ينتظروا حتى أن تنتهي الصلاة، ولا أن يستوثقوا من القائل، ولا أن يحلفوه أن هذا قد حدث. والله لم يحدث. ما دام قد قال رسول الله ﷺ إذًا سمعًا وطاعة ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾.
وهذا هو الفارق بين المؤمنين وبين غيرهم في هذا الأمر وفي غيره.
اليهود على المقابل كانوا فرحين مبتهجين عندما اتخذ النبي ﷺ بيت المقدس قِبلة لهم. تعلمون لماذا؟ لأنه من خبثهم، وفظاعة حِقدهم تجاه رسول الله ﷺ وتجاه الإسلام. كانوا يظنون أن النبي ﷺ سيتبعهم في دينهم بعد ذلك. وبالتالي لما جاء الأمر بتحويل القبلة أصيبوا بالإحباط واليأس. فأطلقوا ألسنتهم ليشككوا المسلمين في دينهم.
وتأملوا الأحداث.. لم يقفوا ليندبوا حظَّهم، ولم يقولوا هكذا فعلوا وسكتوا. لا، لقد أطلقوا ألسنتهم، ووسائل إعلامهم وقت في ماذا؟ ليشككوا المسلمين في دينهم. قائلين ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾. مع أنهم يعلمون أن الأمر بيد الله. بل إنهم يعلمون أن الأمر من عند الله. لماذا؟ بما يجدونه من صِفة سيدنا محمد ﷺ في كتبهم.
لذلك؛ جاء قول الله ﷻ -في سورة البقرة- بعد حديثه عن تحويل القبلة ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾. نعم. يعلمون أن هذا الأمر حق. إذًا ما ضلَّلوا به الناس كان كذبا هم يعلمون أنه كذب. لكنه شأن اليهود وديدنهم.
فأجابهم الله ﷻ مع هذا كله عن سؤالهم، بأن نعتهم بصفة كانت من فوق سبع سماوات. لم تكن من قبيل البشر، ولا من منظماتٍ أعدَّها البشر. كان وصف الله لهم من فوق سبع سماوات بأنهم سفهاء. فذكر ربنا في كتابه ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾. فكان جوابه ﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. اللهم امنحنا هداك.
فهو وحده المالِك المتصرف الذي لا مُعقب لحكمه. يفعل ما يشاء في خلقه، ويحكم ما يريد في شرعه. وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء عن الصراط القويم. وله في ذلك الحِكمة التي يجب لها الرضا والتسليم.
ولعل سائلا يسأل: ما هي الحكمة، وما هو السبب في تحول بداية عن الكعبة لبيت المقدس والعودة إليها ثانية؟ الجواب: أن ذلك مبنيا على حِكمة ذكرها الله ﷻ. فقال ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾. أي: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك، ومن يطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت؛ ممن ينقلب على عقبيه. وإن كانت لكبيرة، الأمر عظيم، هذه الفعلة هو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة. إي وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس لكن إلا على الذين هدى الله قلوبهم. اللهم اهد قلوبنا يا رب.
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال عن أهل الكتاب -واسمع جيدا- أنهم لا يحسدونا على شيءٍ كما يحسدونا على ثلاث أشياء. واسمعوها وعوها جيدا. تخيلوا الأولى هي ماذا؟ حسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله وضلوا عنها. الله أكبر، فلله الحمد والمنة. احمدوا الله على هذه النعمة يا أهل الجُمَع والجماعات. فقد هدانا الله إليها وضلوا هم عنها.
والأمر الثاني الذي حسدونا عليه هو القبلة التي هدانا الله لها وضلوا هم عنها.
تعلمون ما هي الثالثة؟ وعلى قولنا خلف الإمام: أمين. أمين التي يتكاسل بعض الناس أن يقولوها في الصلوات الجهرية خلف الإمام؛ حسدنا عليها يهود. حسدنا عليها لأنها محض نعمة من الله ﷻ.
علاقة تحويل القبلة بمفهوم ومقاصد الإسلام
أيها المسلمون الكِرام؛ بهذا العظيم انكشف باطن الكافرين، ومُحص المذبذبون، ومر الاختبار بعد أن تعلم منه المسلمون. واستفادوا مما ينبغي لنا الاستفادة به في عصرنا الحاضر؛ من:
- أهمية اليقين والتسليم لأمر الله، والانقياد لأوامره
- وأهمية الثبات أمام الشبهات التي يلقيها أعداء الأمة دون انقطاع.
- عدم التأثر بهذه الشبهات، بل والرد عليها لنحمي ضِعاف الإيمان من التأثر بها.
أيها المسلمون الكرام، إن أردنا أن يكون الله لنا وليّا، وإن أردنا أن يكون الله لنا نصيرا؛ فعلينا بديننا، نتمسك به، ونعضّ بالنواجذ على ما بقي لنا من ديننا. فليس لنا سواه، ولا ملجأ لنا إلا بالتمسك به والاعتصام به.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين.
عباد الله، أُذَكِّركم ونفسي بقول الله ﷻ في سورة البقرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
الدعاء
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، ووسع أرزاقنا يا جواد يا كريم.
اللهم بارك لنا فيما بقي من شهر شعبان، وبلغنا رمضان.
اللهم بلغنا رمضان ونحن في صحة وعافية، وبلادنا في أحسن حال.
وأقِم الصلاة.
كانت هذه خطبة جمعة مباركة، بعنوان: تحويل القبلة وعلاقته بمفهوم ومقاصد الإسلام. ألقاها الشيخ مصطفى عزت حميدان؛ حفظه الله.
نسأل الله ﷻ أن ينفعنا بها وإياكم في الدنيا والآخِرة.