وما زِلنا في خِضَم الخطب المنبرية عن أخلاق وصفات وحياة الحبيب المصطفى والنبي المجتبى؛ محمد ﷺ. والآن مع خطبة ﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾. مكتوبة جاهزة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والإحسان العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، من وصفه ربه بقوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه ذوي الخلق الكريم.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، وتأسوا برسول الله، فإنه الأسوة الحسنة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إن نبينا ﷺ قد خصه الله بصفات لم تكن لأحد من المخلوقين قبله ولا بعده، وحسبنا أن الله جل جلاله وصفه بصفتين كريمتين وصف بهما نفسه، وهما الرأفة والرحمة؛ فكان في ذلك إلماح أن رسول الله قد بلغ فيهما الغاية، ووصل فيهما إلى النهاية؛ فهو أرأف خلق الله بخلقه، وهو أرحم المخلوقين بالمخلوقين، ولم تكن رحمته بالأحياء فحسب، بل كانت للجمادات أيضا؛ ولذلك قال فيه الحق ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، نعم، هو رحمة للعالمين من الأحياء والجمادات، وما أكثر صور رحمته! وما أكثر ما نقل عن ذلك من أخباره! وهل ذلك المنقول إلا نقطة من بحر أو ذرة من رمال!
وما أحوجنا – عباد الله – إلى الوقوف على مظاهر رحمته، ودراسة تجليات رأفته! لتكون لنا عونا على غرس الرأفة في قلوبنا، فإذا حدثتنا نفوسنا بقسوة تذكرت رحمة رسول الله فردت إلى منهاج رسول الله؛ ليكون التأسي به سجية قلبية وصفة نفسية، وليس شيئا تتكلفه نفوسنا؛ فننتظم في سلك المسارعين في الخيرات؛ فإن المسارعين في الخيرات هم الذين يعملون الطاعات عن رغبة ومحبة، لا عن تكلف ومشقة.
ولننظر كيف أن الحق ﷻ بدأ بذكر الرأفة وثنى بذكر الرحمة، وقد يكون في ذلك إرشاد إلى أن الرأفة صفته القلبية، والرحمة تلك الأقوال والأفعال التي تفيض رقة وحبا للخير للناس، فالرحمة النبوية قولا وفعلا آثار رأفته ﷺ؛ فكانت الرأفة حقيقته الباطنة، والرحمة حقيقته الظاهرة؛ ولا عجب؛ فإن ذلك من التربية الربانية والتأديب الإلهي، وقد قال النبي ﷺ: «أدبني ربي فأحسن تأديبي».
وإذا أردت أن تتحدث عن رحمة رسول الله ﷺ فحدث عن البحر! فإنك ستجدها في تعاملاته مع أهله ومع أولاده، ومع أحفاده ومع من يخدمه، ومع أصحابه ومع أعدائه، ومع النساء ومع الرجال، ومع الصغار ومع الكبار، ومع المصيب ومع المخطئ، ومع الإنسان ومع الحيوان، ومع الحي ومع الجماد، بل إن الرحمة تفيض منه في كل حين حتى في حين صلاته، فقد ورد أن رسول الله ﷺ كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ﷺ فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
وقد صلى النبي ﷺ بالناس صلاة الفجر فقرأ في الأولى بسورة مريم، وقرأ في الأخرى بسورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد﴾، فلما سئل عن ذلك أخبرهم أنه سمع صبيا يبكي، فخشي أن تكون أمه تصلي مع الناس فتتأخر عليه؛ فتجوز في صلاته رحمة به وبأمه، وهو الذي يقول عليه الصلاة والسلام: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه».
فهذا في الصلاة – عباد الله – فكيف برحمته وهو في غير الصلاة! وقد كان النبي ﷺ يرى شيئا من الفعل لا يليق، فيقوم إلى إصلاحه ليتنبه الناس أنه خطأ، ويعظهم بالتي هي أحسن من غير أن يسأل عن الفاعل؛ فيتنبه الفاعل لخطئه وينتبه الناس، وتزداد محبته لرسول الله ﷺ، حتى قال أحدهم: «بأبي هو وأمي، ما رأيت معلما، قبله ولا بعده، أحسن تعليما منه».
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهنا أيضًا خطبة: خصائص أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومقومات خيريتها
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، عليه من ربه الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه وأتباعه الكرام.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، وانظروا في مظاهر رأفة النبي ﷺ، وتدبروا فيما بلغكم من أخبار رحمته، تدركوا استحقاقه لوصف ربه له ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وماذا نذكر وماذا نترك! فكل حركاته وسكناته، وكلماته ونظراته، وأفعاله وتعاملاته، رحمة للعالمين.
وتأملوا في تعامله مع من يخدمه ويعمل معه، فهل سنجد أرقى من ذلك! فقد قال أنس بن مالك، وقد خدم النبي ﷺ عشر سنين: «خدمت النبي ﷺ عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني، فإن لامني أحد من أهل بيته إلا قال دعوه؛ فلو قدر أن يكون كان»، وقال رضي الله عنه: «ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا»، بل كان النبي ﷺ يعامل من يخدمه ويعمل معه في بيته معاملة أهل بيته ويأمر بذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»، وقال ﷺ: «إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه أو ليناوله منه؛ فإنه هو الذي ولي حره ودخانه»، نعم، إنه رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.