واستكمالًا للسلسلة المنبريَّة المبارَكة التي بدأناها معكم سابقًا، والتي قدَّمنا من خلالها العديد من خطب الجمعة؛ هنا أيضًا خطبة جمعة عن اليقين في الرزق؛ نسوقها إليكم لتكون مزيد إضافة نورانيَّة مُبارَكة لما تخططون له من تحضير الخطبة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم الوهاب ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: ﴿لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، رسول رب العالمين، وإمام الأنبياء والمرسلين، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه البررة المتقين.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—، فمن اتقى يسره الله لليسرى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ تدبروا قول ربكم: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، فإن في هذه الآية إسناد قسمة المعيشة بين الخلق ورفع الدرجات إلى الله وحده لا شريك له؛ فكان في ذلك دعوة للمخلوق إلى ابتغاء الرزق عند الله، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، يقول الله ﷻ: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
والله هو المعطي وهو المانع، ومنعه خير كما أن عطاءه خير، ولو اطلع الإنسان على حكمة الله في المنع لعلم أن فيما اختاره الله له الخير، ولم يرد إلا اختيار الله، ومن تأمل بعين البصيرة في قسمة الله بين العباد وجد العدل المطلق والحكمة البالغة التي لا يستقيم الوجود إلا بها؛ فقد نوَّع الله تلك الأرزاق بين خلق وعلم ومال وجاه وحكمة وحسن تدبير وقوة وصحة وبيان وصنوف كثيرة من الأرزاق، ولا تجد في الوجود إنسانا جمع الله له هذه الأرزاق، بل وزعها الله بين عباده، فهذا أعطي حظا كثيرا من العلم، وذاك أعطي حظا كثيرا من المال، وآخر أعطي حظا كثيرا من الصحة، ورابع أعطي حظا كثيرا من الحكمة، وخامس أعطي حسن التدبير، وسادس أعطي سداد الرأي.
وهكذا —عباد الله— نجد الأرزاق على هذه الحال من القسمة؛ ليحتاج الناس بعضهم إلى بعض؛ فلا يكون أحد من المخلوقين مستغنيا بنفسه، بل يلزم أن يكون مفتقرا إلى غيره، وهذا معنى قوله ﷻ: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، نعم، ليكون بعضهم مسخرا لبعض، فكان ذلك من مظاهر لطف الله بعباده وهو القائل: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾، ولننظر كيف أن الله أعطى هذا من العلم أكثر مما أعطاه من القوة، وأعطى ذاك من الصحة أكثر مما أعطاه من المال، وأعطى آخر من الجاه أكثر مما أعطاه من حسن التدبير، فإذا كان هذا الإنسان قد زيد في العلم، فلا شك أن الآخر زيد في شيء آخر من صحة أو قوة أو مال أو سلامة صدر أو طمأنينة؛ فكان في قسمة الله العدل المطلق، فتجد كل إنسان قد استوفى رزقه كاملا غير منقوص.
وفي الأثر عن رسول الله ﷺ: «والذي نفس محمد بيده، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه في غير طاعة الله».
والعجب —أيها المؤمنون— ممن ﴿يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾، فتجده إذا رأى إنسانا زيد في نعمة يقول: لماذا أعطي كثيرا وأعطيت قليلا، وكان الواجب عليه أن يقول: ما النعمة التي أعطي فيها قليلا وأعطيت فيها كثيرا، ولنعلم أن الموهبة وحدها لا تكفي من غير جد واجتهاد وصبر ومصابرة، فمن أعطي موهبة في تلقي العلم فلن ينال علما من غير طلب واجتهاد، ومن أعطي نعمة النجاح في الأعمال لا يتحقق له النجاح إلا بالسعي الدؤوب؛ فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، ولذلك قال الله ﷻ لعباده بعد قضاء الصلاة: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ولا ينتفع الإنسان بتذليل الله للأرض وتسخيرها إلا بالمشي في مناكبها، والمشي في مناكبها يراد به طلب الرزق والجد في تحصيله، يقول ربنا ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
وهنا تجدون خطبة: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون — مكتوبة كاملة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله —عباد الله—، واعلموا أن ربكم ﷻ عنده خزائن السماوات والأرض، فاسألوا من واسع فضله؛ فإن إعطاءه كل واحد مسألته لا ينقص مما عند الله شيئا، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا»، وليسأل الإنسان ربه كل ما يريد مما أحل الله من الطيبات ولو كان شيئا صغيرا ولا يستحي؛ فإن المسؤول هو الله ﷻ، وقد روي عن بعض العارفين أنه قال: “إني لأسأل الله كل شيء حتى الملح للطعام”.
وإن من التوفيق —أيها المؤمنون— أن يمن الله على الإنسان بالبركة فيما آتاه، فتجد أحد الناس يكفيه ما لا يكفي غيره؛ فقد أوتي أحدهما حسن التدبير، وليس للآخر حسن تدبير؛ فتجده يذهب ماله فيما لا يحتاج إليه، فإذا أراد ما يحتاج إليه لم يجد عنده مالا، وتجده ينفق رزق أيام في يوم واحد، وقد أثر عن أبي بكر الصديق —رضي الله عنه— أنه قال: “إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد”.
ومن إرشاد الله لعباده قوله ﷻ: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾، ومن صفات عباد الرحمن أنهم ﴿إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد أن قدَّمنا لكم إخواني؛ خطبة جمعة عن اليقين في الرزق. هذه أيضًا خطبة عن الرزق وأسبابه ومفاتيحه. نسأل الله الكريم المتعال ﷻ أن ينفنا وإياكم، وجميع المسلمين، بكل هذه الخطب والدروس والمواعِظ.