خطبة مؤثرة عن الوفاء بالعهد – مكتوبة

خطبة مؤثرة عن الوفاء بالعهد - مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحمد لله القائل: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعث للعالمين رسولا يأمرهم بالأمانة، وينهاهم عن إخلاف الوعد والخيانة.

وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، خير الموفين بالعهود، والمحترمين للوعود، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الخطبة الأولى

أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واهرعوا إلى طاعته ومرضاته، وسابقوا إلى نعيمه وجناته، واعلموا -رحمكم الله- أن الله عز وجل أمر بالوفاء بالعهد، إذ قال: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ)، وقال آمرا به في موضع آخر: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)، وعده من صفات المتقين: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وقد وصف المولى ﷻ أولي الألباب بعدم نقضهم العهد والميثاق: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)، بل إن إخلاف الإنسان وعده يجعله في عداد المنافقين، والعياذ بالله، قال ﷻ: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ).

وأكدت السنة النبوية ما جاء في الآية، قال النبي ﷺ: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»، وقد جاء عن أحد الحكماء قوله: “لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده. والكريم يود الكريم عن لقية واحدة، واللئيم لا يصل أحدا إلا عن رغبة أو رهبة”.

أيها المسلمون: إن العهد عهدان: عهد مع الله، بالتزام حدوده، وعدم الشرك به، وعبادته حق عبادته، قال ﷻ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)، وهو المقصود في الآية: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)، وعهد بين الإنسان وأخيه، أو مع أي شخص عموما، وهو المذكور في الآية: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ).

والعهد عموما له صور كثيرة، فالوفاء في سداد الدين عهد، ورد عن المصطفى ﷺ قوله: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله»، والوفاء بين الزوجين عهد، بأن لا يظلم أحدهما الآخر، ولا يعتدي عليه بغير وجه حق، والوفاء بإعطاء الأجير أجره عهد: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، وكذلك وفاء العامل بعمله؛ فكما أن المؤجر يجب عليه الوفاء، فكذلك على العامل الوفاء بما اتفق عليه مع العاقد، ولا ننسى الوفاء بالنذر، فقد امتدح الله المؤمنين بقوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)، وجاء عن النبي ﷺ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، وهذا من حكمة الإسلام؛ فإنه لا سبيل إلى المعصية ولو سبقها وعد، وهو مظهر أيضا من مظاهر التيسير؛ لأن الإنسان قد يتوب ويتراجع عن ذلك الوعد، فليس له حينها إلا عدم إمضائه، تيسيرا من الشرع، ومراعاة للمقاصد الشرعية.

أيها المؤمنون: ليس معنى أمر الله بالوفاء بالعهد أن يكثر من الوعود، وإنما على العاقل أن يقلل من الوعد ما استطاع؛ لأن كثرة الوعد مظنة الإخلاف؛ لما قد يطرأ على الإنسان من ظروف، فقد ينسى، وقد يصعب عليه الوفاء بما وعد، وقد يتغير رأيه؛ لذلك على الإنسان الإقلال منه، وعدم اللجوء إليه إلا لحاجة، فإن كان ولا بد فليعد بما يجد من نفسه القدرة على الوفاء به، والقوة على إنجازه وفعله، أما أن يتخذ الإنسان حياته وعودا، ولو لأدنى أمر، فإن هذا خطأ يجب تصحيحه، وينبغي للواقع فيه من الناس نصحه وتوجيهه؛ لأن الوعد قيد، والقيد ثقيل على النفس لا يلجأ إليه الإنسان إلا مضطرا، فكيف يقيد الإنسان نفسه بوعود كثيرة، لا يدري أيستطيع الوفاء بها أم لا.

ولذلك قيل: “أبطأ الناس في قطع الوعود أحرصهم على الوفاء بها”؛ لأن العاقل يحسب ألف حساب قبل أن يعد بشيء؛ لأنه -من ناحية- يخشى أن يقع في إثم إخلاف الوعد إن هو لم يف به، ومن ناحية أخرى لا يعلم ما الله كاتب له في قادم الأيام من ظروف.

فاتقوا الله -عباد الله-، وأوفوا بعهد الله تلقوا الأجر العظيم، والثواب الجزيل، ولا تخونوا العهد؛ فإنه ليس من شيم المؤمنين، ولا هدي الموفين المخلصين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

وهنا أيضًا: خطبة عن الوفاء وحفظ الجميل – عُزِّزَتْ بأطيب القصص والمواقف في التاريخ الإسلامي

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي رتب على الوفاء بالعهد ثوابا عظيما، ومغفرة منه وأجرا كريما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين، أوفى الناس بالعهود، وأكثرهم خشية لربه المعبود، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا عباد الله: إن للوفاء بالعهد فائدة وثمارا، ونتائج طيبة وآثارا، فأعظمها حصول الأجر العظيم، قال ﷻ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)، وقال ﷻ موضحا الأجر أيضا: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، والرغبة في بلوغ التقوى إحدى ثماره اليانعة، إذ رتب المولى ﷻ على الوفاء بالعهد الوصول إلى التقوى، قال ﷻ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

والفوز بمحبة الله ﷻ ثمرة من ثماره، قال ﷻ: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، وله من الفوائد ما لا يعد، فبه يعيش الناس آمنين مطمئنين على أموالهم، فإن هم أقرضوا شخصا ووعدهم اطمأنوا أن سيفي الواعد بوعده، وإن اتفق معهم على أمر لم يخشوا منه نقضه وإخلافه، وهكذا يكون المجتمع متلاحما، يحسن كل واحد الظن بإخوانه، ويفي كل واعد بما وعد به؛ لأنه مسؤول عن وعده، ومتى ساد هذا الخلق الجميل كان الناس على خير؛ فإنهم سيثقون في تعاملهم مع غيرهم؛ ليقينهم بخوفه من الله، وبحرصه على الوفاء بما ألزم به نفسه.

فاتقوا الله -عباد الله-، واجعلوا الوفاء بالعهد منهج حياتكم، ونبراس عيشكم، وسبيل رفعتكم وتقدمكم، تنالوا من الله الأجر الجزيل، والثواب العميم.

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.

أضف تعليق

error: