عناصر الخطبة
- الوسطية التوازن والاعتدال سنة الله ﷻ في مخلوقاته، وينبغي على المسلم أن يعيش حياة التوازن والاعتدال حتى يكون منسجماً مع بيئته ومحيطه.
- وازن الإسلام بين جانب الروح والمادة في الإنسان، فأعطى للبدن حقه وللروح حقها، كما أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة.
- الوسطية هي عين الاعتدال والتوازن، وقد جعل الله ﷻ هذه الأمة الإسلامية الأمة الوسط بين الأمم، بلا إفراط ولا تفريط، أمة متوازنة بكل أفعالها ومعتقداتها.
- التوازن والاعتدال سمة راسخة من سمات الإسلام العظيم، وضرورة من ضرورات نماء المجتمع ودوام بنائه.
الخطبة الأولى
خلق الله ﷻ الكون وأودع فيه جملة من النواميس التي تضبط حركته، وأوكل لكل شيء خلقه وظيفة يؤديها بتناغم وانسجام مع سائر المخلوقات دون تعارض بينها، وهذا التقدير المحكم لوظائف المخلوقات يدلّ على توازن لا خلل فيه واعتدال لا طغيان بين مكوناته، فسبحان من خلق فسوّى، وقدّر فهدى، والناظر إلى الأرض التي نعيش عليها وبقليل من التفكر وإعمال العقل يدرك أنّ التوازن والاعتدال سمة ظاهرة في الكون، نلمسه في كل ما خلق الله، فكلُّ شيء في الكون يسير باتساق ونظام، فلا فوضى ولا اضطراب، يقول الله ﷻ: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38].
وقال ﷻ: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19]، فالشمس والقمر وسائر الكواكب والنجوم تمضي في مساراتها بتوازن دقيق، لا تخرج عن مسارها دون تقدم أو تأخر، ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 38-40].
وكذلك الليل والنهار يتعاقبان بتقدير الله ﷻ كما في قوله ﷻ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهَ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهَ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 71-72]، فالليل يؤدي مهمته في الإنسان سكناً ﴿هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه﴾ [يونس: 67]، والنهار معاشاً ﴿وجعلنا النهار معاشا﴾ [النبأ: 11].
وكذلك جاء خلق الإنسان منتصب القامة، متناسب الجسم، سوي الأعضاء، عاقلاً متوازناً أودع الله فيه سبحانه عقلاً يفكر وروحاً تسمو وجسماً يعمل ومشاعر تحقق الإنسانية فيه وغرائز تبقي نوعه، كل ذلك من أجل أن يؤدي مهمته التي وكلها الله له في هذا الوجود، قال الله ﷻ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، فخلقه الله ﷻ على هيئة وتقويم يتناسب مع مهمته التي وكلت إليه ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].
وأنزل الله ﷻ الوحي والشرائع على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبلغوها للإنسان والتي تغذي فيه سائر الملكات بتوازن واعتدال دقيق حتى لا يطغى فيه جانب على جانب ولا تترجح عنده ملكة على حساب الملكات الأخرى في كيانه القويم، قال ﷻ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143].
فالتوازن والاعتدال يحتلان مرتبة أولى، وأهمية أساسية في توجيهات الإسلام السامية، وهما مصطلحان مرتبطان يشيران إلى أن جميع الموجودات في هذه الحياة خلقها الله ﷻ بميزان العدل والحق ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ الحديد: 25، فالله ﷻ هو العدل الذي لا يظلم ولا يجور، وهو الذي خلق كل شيء فقده تقديراً، وينبغي على الإنسان أن ينسجم مع هذه الحقيقة التي تمثل حاجة ملحة، وضرورة أكيدة لأجل ارتقاء الحياة ونموها، فسر نجاح الأمم ورقيها هو تمسك أفرادها بمنهج الاعتدال والتوازن، وجعل جميع شؤون الحياة تابعة لهذا الأصل العظيم.
عباد الله: لقد وازن الإسلام بين جانب الروح والمادة في الإنسان، فأعطى للبدن حقه وللروح حقها، كما أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة؛ يقول الله ﷻ: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 7]، والله ﷻ أنكر على الذين يحرمون الطيبات معتقدين أن ذلك من الورع، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]، وقال ﷻ: ﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87].
ولقد كان رسول الله ﷺ النموذج والقدوة في التطبيق لهذا المفهوم المتوازن للدين، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا أي رأوها قليلةً بالنسبة لما ينبغي لهم – فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه.
وعندما زار سلمان الفارسي رضي الله عنه أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ له سلمان رضي الله عنه: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «صَدَقَ سَلْمَانُ»، صحيح البخاري.
عباد الله: إن الإسلام يعزز في نفس المسلم مشاعر الثقة والاستقلال الفكري والنفسي، ليكون متوازناً معتدلاً في أمور الحياة، جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا! وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا» رواه الترمذي.
كما إن الوسطية هي عين الاعتدال والتوازن، وقد جعل الله ﷻ هذه الأمة الإسلامية الأمة الوسط بين الأمم، بلا إفراط ولا تفريط، أمة متوازنة بكل أفعالها ومعتقداتها، وقد مدحها الله ﷻ بهذه الوسطية، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة: 143، وقد ذمت الشريعة التطرف والغلو في الدين ونهت عنه نهياً صريحاً واضحاً، فقال الله ﷻ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ النساء: 171.
قال رسول الله ﷺ: «هلك المتنطعون قالها ثلاثاً» رواه مسلم، قال الإمام النووي: “أي المتعمقون الغالون، المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم”، وقال ﷺ: «وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه النسائي.
فعقيدتنا الإسلامية هي العقيدة الوسطية لأمَّة كرمها الله بالخيرية، والفضل ﴿وكذلك جعلناكم أمَّةً وسَطًا﴾.
فالإسلام دين وسط في الاعتقاد بين الذين ينكرون كل ما لا يقع تحت حواسهم كالماديين، الذين لا يقتنعون إلا بالمادة المحسوسة ولا يستمعون لصوت العقل ونداء الفطرة ولا لدلالة المعجزة ووضوحها، وبين أتباع الخرافة الذين يؤمنون بكل الخرافات من غير حجة أو برهان، فالإسلام يدعو إلى الإيمان ويطرح الأدلة العقلية القاطعة الدالة على ما يدعو إليه من قضيا الغيب، ويرفض ما غير ذلك من الأوهام والخرافات.
وقد قال الله ﷻ في كتابه: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة:111، فهو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهو دين وسط بنظرته إلى الأنبياء فلا يرفعهم إلى مرتبة الألوهية، ولا يكذبهم فيحط من قدرهم، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، ولا انحراف، بل دين متوازن فيما أنزل من تصور عن الخالق والكون والإنسان، دون توغل بالعقل لإدراك كل شيء حتى الألوهية، ولا تقليد أعمى، حيث عاب الله على القائلين: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ الزخرف: 23، فدعاهم إلى التوسط والأخذ بالمشهود من الموجودات كوسائط واستدلالات قال ﷻ: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ الذاريات: 20-21.
وهذه خطبة «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحبه» مكتوبة كاملة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.
عباد الله: إنّ التوازن والاعتدال سمة راسخة من سمات الإسلام العظيم، وضرورة من ضرورات نماء المجتمع ودوام بنائه، والتوازن في هذا الدين شمل مجالات أخرى في الحياة، كالاعتدال والتوازن في النفقة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67]. والاعتدال والتوازن في الطعام والشراب ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31]. وفي صرف المال ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء:30]، كذلك أمر بالاعتدال في الصلاة، فقال ﷻ: ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً﴾ [الإسراء:110]، وغير ذلك من مظاهر التوازن التي لها أعظم الأثر في الارتقاء بحياة الإنسان دون إهدار لمقومات الحياة أو تفريط بها.
والحمد لله ربّ العالمين..
واقرأ أيضًا هنا: خطبة الجمعة عن الإيمان بالقدر خيره وشره