ومع اللقاء المتجدد بالأئمة والخطباء الأجلاء في كل أرجاء المعمورة. مع خطبة اليوم المُعدَّة كُليًّا لكم؛ بعنوان: الورع وترك الشبهات قيمة إسلامية عظيمة.
مُعزَّزة بما يلزم من الآيات القرآنية مت كتاب ربنا ﷻ وسُنَّة الحبيب المصطفى ﷺ؛ والله نسأل أن يوفق كافَّة الخطباء لتعم خطبهم وعلمهم الأرجاء.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله وحده؛ نحمده ﷻ ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونستنصره، ونعوذ ببه ﷻ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
عباد الله؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ﷺ، اللهم صَلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ ولزوم طاعته؛ لقوله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا | يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
الخطبة الأولى
إن من أجل القيم وأعظمها ما أورث في القلب تقوى الله ﷻ، وأدى إلى سلوك الطريق القويم في الدنيا، والفوز والنجاة عند الله ﷻ في الآخرة، ومن هذه القيم أن يتزين بها المسلم خلق الورع، الذي يتجلى به تعظيم قدر الله ﷻ في القلوب، وصلة المحبة بين العبد وربه، وقد عرفه العلماء بأنه المجانبة لكل ما كره الله ﷻ من مقال أو فعل بقلب أو جارحة، والحذر من تضييع ما فرض الله ﷻ عليه في قلب أو جارحة، يقول ﷻ: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى﴾.
والورع هو الذي يحجز النفس عن الوقوع في شبهات الباطل، وهو السياج المتين الذي يحمي المؤمن من مزالق الشيطان ومكائده، يقول النبي ﷺ: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» — متفق عليه.
فيبين الحديث الشريف بأن الأحكام تنقسم إلى ما هو حلال أو حرام بينان لا شك فيهما، وأن هناك منطقة تتوسط الحلال والحرام، لا يعلم حكمها إلا العلماء الذين قال الله ﷻ فيهم: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلىٰ أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾، والورع يقتضي من المسلم أن يجعل مسافة أمان بينه وبين المحرمات حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال سفيان بن عيينة: “لا يصيب عبد حقيقة الإيمان؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه”.
والحق أن لخلق الورع معارج ترتقي بها نفس المؤمن ومدارج يسلكها من أراد الوصول إلى مقام التقوى ومحبة الله ﷻ ورضوان، ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها، وأن يجاهد النفس للوصول إليها، وأول هذه المعارج، التحلي بالورع في حضرة الله ﷻ، ويكون ذلك بتعظيم قدر الله ﷻ في النفوس، والإخلاص بالعبادة له ﷻ، والابتعاد عن الشبهات التي يوسوس بها الشيطان على النفس، فإن ذلك من صفات المؤمنين الذي قال الله ﷻ في حقهم: ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلىٰ ربهم يتوكلون﴾، وكذلك الورع في جناب النبي ﷺ ويكون ذلك بمحبته وتعظيم قدره واتباع نهجه وسنته، والاقتداء بهديه الشريف، وكمال الأدب معه، وهو ما أمرنا به الله ﷻ بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾.
ومن مقامات الورع أن يعظم المسلم شعائر الله ﷻ لأن ذلك دليل على تمام التقوى، يقول ﷻ: ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾، ويقول النبي ﷺ: «فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع» — المستدرك على الصحيحين، فالعبادة مع الورع تؤدي إلى حضور القلب، وخشية الله ﷻ، والإخلاص في القول والعمل.
وكذلك أن يعظم المسلم حرمات الله ﷻ يقول الله ﷻ: ﴿ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه﴾، فصاحب الورع لا تمتد يده إلى مال أو طعام فيه شبهة حرام، ولا تنظر عينه إلى حرام، ولا تستمع أذنه إلى منكر أو غيبة ونميمة، وقد كان سيدنا رسول الله ﷺ المثل الأعلى والقدوة الحسنة في التعفف عما فيه شبهة، فيقول ﷺ: “والله إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، أو في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة، أو من الصدقة، فألقيها” — صحيح مسلم.
وكذلك ينبغي على المسلم ألا يقدم على قول أو فعل فيه شبهة مهما بدى في نظر صاحبه صغيرا، فإن الجرأة على الشبهات يقود إلى الوقوع في الكبائر، يقول النبي ﷺ: “إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ” — مسند الإمام أحمد.
ويقول بلال بن سعد الواعظ: “لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر لعظمة من عصيت”.
ويزداد خطر الوقوع في هذه الشبهات إن كانت تؤدي إلى الإخلال بأمن المجتمع والعبث باستقراره كنشر الشائعات المبنية على الوهم والظن دون التحقق والتثبت، ويقول النبي ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة» — سنن الترمذي.
وقد أخبر النبي ﷺ بأن الورع من الفطرة السليمة وحاجز الهيبة الذي ينهى عن الإقدام في المعاصي، وقد حذر النبي ﷺ من هتك هذه الاستار والانحراف عن الصراط المستقيم، لأن ذلك يؤدي إلى الجراءة على المعاصي حتى تصبح طبعا وعادة، فتهلك صاحبها، يقول النبي ﷺ: “ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم” — مسند الإمام أحمد.
ألا وإن من مقامات الورع العالية تخلق المسلم بهذا الخلق العظيم في التعامل من الناس جميعا، بالابتعاد عما يؤذيهم من الأقوال والأفعال، وأن يتورع عن اتهام الناس بالباطل، أو تحقيرهم، أو الإساءة إليهم والخوض في أعراضهم بالغيبة والنميمة، يقول الله ﷻ: ﴿وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم﴾، بل إن مقام الورع يقتضي من المسلم أن يعامل الناس بالحسنى والأخلاق العالية، يقول ﷻ: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾.
ويقول النبي ﷺ: “يا أبا هريرة: كن ورعا تكن من أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس، وأحب للمسلمين والمؤمنين ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك تكن مؤمنا، وجاور من جاورت بإحسان تكن مسلما، وإياك وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك فساد القلب” — سنن الترمذي.
وهنا تجِد -إمامنا الفاضل- خطبة: حقوق ذوي الأرحام في القرآن والسنة وبركات صلة الأرحام
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾.
عباد الله: إن مع وجوب حرص المسلم على خلق الورع عليه أن يبتعد عن الرياء والتنطع في الدين والتضييق على النفس في المباحات، أو إجهادها في العبادات، وهو ما يسمى بالورع الكاذب، وهو ما شابه الرياء وتجرد عن الإخلاص، وهو ما يؤدي إلى التشدد في الدين، والتطرف في الأفعال والأقوال.
وقد ورد في الحديث أنه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ، يسألون عن عبادة النبي ﷺ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ؟! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله ﷺ إليهم، فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني” — صحيح البخاري.
ولا تفوتكم كذلك: خطبة عن الأخوة في الله والمتحابون فيه ﷻ
ملخص الخطبة
- خلق الورع من أجل القيم التي تورث التقوى في قلوب المؤمنين، فبه يتجلى تعظيم قدر الله ﷻ في القلوب، وتتنامى صلة المحبة بين العبد وربه، وقد عرفه العلماء بأنه المجانبة لكل ما كره الله ﷻ من مقال أو فعل بقلب أو جارحة، والحذر من تضييع ما فرض الله ﷻ عليه في قلب أو جارحة.
- أعظم درجات الورع يكون بتعظيم قدر الله ﷻ في النفوس، والإخلاص بالعبادة له ﷻ، والابتعاد عن الشبهات التي يوسوس بها الشيطان على النفس، وكذلك الورع في جناب النبي ﷺ ويكون ذلك بمحبته وتعظيم قدره واتباع نهجه وسنته، والاقتداء بهديه الشريف، وكمال الأدب معه.
- من ثمرات الالتزام بخلق الورع، حفظ حاجز الهيبة الذي ينهى عن الإقدام في المعاصي، وصيانة أمن المجتمع من المفاسد، فصاحب الورع لا تمتد يده إلى مال أو طعام فيه شبهة حرام، ولا تنظر عينه إلى حرام، ولا تستمع أذنه إلى منكر أو غيبة ونميمة وحماية المجتمع من نشر الشائعات المبنية على الوهم والظن دون التحقق والتثبت.
- الواجب على المسلم، أن يبتعد عن الرياء والتنطع في الدين والتضييق على النفس في المباحات، أو إجهادها في العبادات، وهو ما يسمى بالورع الكاذب، وهو ما شابه الرياء وتجرد عن الإخلاص، وهو ما يؤدي إلى التشدد في الدين، والتطرف في الأفعال والأقوال.
وختامًا؛ نترككم مع مقترحنا الأخير هاهُنا؛ وهو خطبة: أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم