ولازال للحديث بقيَّة، والتواصل معًا هنا في ملتقى الخطباء بموقع المزيد، نعطيكم مُجدَّدًا خطبة عن الهجرة النبوية؛ بها دروس وعبر عظيمة؛ كانت من رسول الله ﷺ، ومن الصحابة، ومن الأنصار. نتمعَّن في هذه الدروس على المنبر لتكون دليلا للناس فيما تبقَّى لهم على هذه الأرض.
اشتملت هذه الخطبة على العناصر المُبسّطة لتيسير وتسهيل الإلقاء والتعبير من قِبل الخُطباء والأئِمَّة. كما تضمَّنت آيات وأحاديث في سياق الخطبة وحديثها وأحداثها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله؛ نحمده الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، وتركنا على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يبتغيها إلا سالك ولا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم فصَلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، إخوة الإسلام، فأوصيكم ونفسي المخطئة المذنبة بتقوى الله في السر والعلن، وأحثكم على طاعته وأنهاكم عن معصيته.
الخطبة الأولى
يقول الله -عز وجل- في القرآن الكريم؛ وتحديدُا في الآية ٧٤ من سورة الأنفال (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم).
أيها المؤمنون؛ من أعظم مشاهد سيرة حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، الهجرة، هجرته هو عليه الصلاة والسلام في سبيل الله، وهجرة الصحابة رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم، امتثالا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحملا لأمانة الدين التي ائتمنهم الله -تبارك وتعالى- عليها.
دروس وعبر
في الهجرة عبرٌ وعِظات متعددة، ينبغي للمسلم أن يقِف عندها؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حُبِّبَت إليه مكة، حُبِّبَت إليه أرضه؛ حيث الكعبة، حيث جده إبراهيم -عليه السلام-، حُبِّبَت له تلك الأرض، وحُبِّبَت للصحابة رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم؛ ولكن لأجل العقيدة ولأجل الدين ولأجل المبدأ والمنهج؛ يُضحي الإنسان حتى بالأرض التي يعيش فيها، ليخرج منها وقتا من الزمن وفي قلبه أن يعود إليها.
ولذلك نتأمل في كلام الحبيب عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب مكة (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). ولكن العقيدة الدين والإسلام والرسالة، إذا احتاج صاحبها وإذا احتاج من يحملها أن يضحي بالمكان، وأن يضحي بالمال، كما فعل الصِّدّيق رضي الله -تبارك وتعالى- عنه؛ أنفق ماله كله في سبيل الله في مشهد الهجرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تضحيات عظيمة
نحن اليوم أيها الأحبة ينقضي فينا عامٌ هجري ليبدأ بعد أيام عام هجري جديد، نتأمل في هذه الأيام تلك التضحيات العظيمة التي رسمت التاريخ والتي سطر فيها المسلمون الأوائل أعظم المشاهد في التضحية، وأعظم المعاني في الفِداء وأروع الصور في تقديمهم لدين الله -تبارك وتعالى-.
لا يخفى عليكم أيها المسلمون؛ ذلك المشهد العظيم لسيدنا علي رضي الله -تبارك وتعالى- عنه، وكرم الله وجهه، وهو يفتدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، لبيت في فراشه تلك الليلة.
لا يلوي على شيء، ولا يتردد في شيء؛ لسان حاله -كبقية الصحابة الكبار إلى الله -تبارك وتعالى- عنهم- يقول: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، نفسي لك الفِداء يا رسول الله.
مشهد عظيم من مشاهد الحب في الله والإيثار والتضحية والإقدام والشجاعة والبسالة. هذه المعاني هي التي غيرت مجرى التاريخ، ولذلك فإننا نقول مشهدان في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام غيرا مجرى التاريخ؛ مشهد الهجرة ومشهد معركة بدر.
مشهد الهجرة بما فيه من العِبر والعِظات والتضحيات، ومشهد معركة بدر الكبرى لما فيها من قوة العنصر المعنوي على العنصر المادي، العنصر الإيماني على العنصر الحسي المادي.
في الهجرة مشهد عظيمٌ آخر للأنصار رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم. يقول -سبحانه- في الآية ٩ من سورة الحشر (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
إيثار الأنصار
الإيثار من أولئك الأنصار رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم وهم يستقبلون المهاجرين، واليوم كل واحد منكم يتمثل بالأنصار في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يُغيث ويعين إخوانه المهاجرين من الدول العربية والإسلامية المختلفة؛ فأنت عندما تحتضن أخًا لك جاء، تفتح له قلبك وتفتح له بيتك، وتعطيه من الحنان والاهتمام والمعونة، فأنت تضرب مثلا عظيما من تلك الأمثال الرائعة التي خبرنا وحدثنا عنها كتاب الله -تبارك وتعالى-.
حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أعطانا معنًا آخر واسِعًا للهجرة؛ فهو القائل عليه الصلاة والسلام (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
فوسَّع رسولنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مفهوم الهجرة في هذا الكلام وفي هذا الحديث، والأجر المترتب على المهاجرين؛ وسَّع المفهوم من هجرة المكان إلى هجرة الحال، وهجرة المنهج، وهجرة الطريقة في الحياة، وهجرة الإنسان لِما اعتاد عليه من أنماطٍ تبعده عن الله -تبارك وتعالى-.
وأيضًا؛ كل واحدٍ يفِر إلى الله -عز وجل- تائبًا هو مهاجرٌ، في هذا التعميم في حديث رسولنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
من يترك الصحبة السيئة إلى صحبةٍ صالحة هو مهاجر في سبيل الله بهذا المعنى العام، من يترك المال الحرام إلى المال الحلال، من يترك نمطًا من أنماط العيش يبعده ويحجب قلبه عن الله -عز وجل- إلى نمط جديد يرتبط بالصلوات الخمس، ويرتبط بكتاب الله -عز وجل-، وبسنن الهدي من حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فهو مهاجر أيضا بهذا المعنى.
ومن يترك عادة ذميمة تخالف السُّنَّة إلى طريقةٍ جديدةٍ في طعامه أو شرابه أو لِباسه أو علاقته مع الناس، هو أيضًا مهاجرٌ بهذا المعنى.
ولذلك؛ عندما يتكلم علماء التربية والسلوك عن منهج التغيير في حياة الإنسان، تراهم -إن صدقوا في بحثهم وتأملهم- يجثون على ركبهم تعظيمًا لتلك المدرسة التربوية العظيمة في تغيير حياة الإنسان، مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ التي تُحيي فينا فِقه التغيير.
الماء الراكد يأسَن بينما الماء الجاري، تبقى فيه النضارة وتبقى فيه الحيوية. وهكذا المسلم، ينبغي أن يكون دائما مقدامًا، مُغيّرًا، مهاجرًا، في حياته إلى الأفضل يترقى في تلك الرُّتَب التي جعلها الله -عز وجل- مرتبطة بصفاء إيمانه وصدق عبادته.
عباد الله؛ إنها التضحية في سبيل الله، هي الميزان الذي يُحْتَكمُ إليه في صدق الإيمان، هي الميزان الذي يُرجَع إليه في التفريق بين الصادق والمنافق.
فليست القضية هي دعوى فكرية فقط، في أن يدعي الإنسان إيمانًا في فكره أو في قلبه؛ إنما الإيمان الكامل بذل وتضحية وفداءٌ.
بأبي وأمي أنت يا رسول الله، تُكسَر رباعيّته عليه الصلاة والسلام، ويُشَجّ رأسه ويسيل دمه الشريف؛ أين نحن من نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام؟
يمشي الأيام الطِوال في صحراء شديدة، غريبة، يمشيها مهاجرًا عليه الصلاة والسلام، ويتحمل الصعاب.
أين نحن من تضحية آلِ بيت النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم، كل تلك التضحيات حُجَّة علينا.
ولذلك، في هذا التاريخ الهجري الذي يقبل علينا فلتُب إلى الله -تبارك وتعالى-، وليكن تحول الزمان فرصة لنا أن نرجع إلى الله -عز وجل-، أن نحاسب أنفسنا، أن نستدرك تقصيرنا وأخطائنا في جَنْب الله -عز وجل-، أن نستدرك ما كان منا من كسلٍ أو عجزٍ وبعدٍ عن التضحية في سبيل الله، حتى يرضى عنا ربنا -تبارك وتعالى-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
عباد الله، اتقوا الله فيما أمر وانتهوا عما نهى عنه وزجر، واعلموا أن ربكم قد صلى على نبيكم قديمًا، قال تعالى ولم يزل آمِرًا حكيما، تعظيمًا لقدر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتكريمًا؛ (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا.
الدعاء
- اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
- اللهم عافنا وأعف عنا وتب علينا يا غفار.
- اللهم أرِنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
- اللهم ثبتنا على الإيمان وأمِتنا على الإيمان، نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
- اللهم ارحمنا إذا جاءنا ملك الموت، اللهم ارحمنا إذا رُفِعنا فوق الأكتاف، اللهم ارحمنا إذا وُضِعنا تحت التراب، اللهم اجعل قبورنا روضةً من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرة من حفر النار.
- اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
- اللهم يا ربنا من أراد بالمسلمين خيرًا فوفقه إلى كل خير، ومن أراد بهم شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر يا جبار.
- اللهم فرج عن المسلمين في فلسطين وفي مصر وفي العراق.
- اللهم أغث إخواننا وأهلنا في سوريا يا رب العالمين.
- اللهم ثبت أقدامهم وانصر مجاهديهم، وارفع البلاء والسوء عنهم.
- اللهم وحد صفوف المسلمين واجمع شملهم يا رب العالمين.
- اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين؛ أقِم الصلاة.
هذه دروس وعبر كُتِبَت هنا في خطبة عن الهجرة النبوية؛ ألقاها أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية؛ فضيلة الشيخ أمين الكردي. فجزاه الله كل خير.