إخواني الأئمة؛ يا من تنشدون خطبة الجمعة عن الهجرة النبوية؛ أحضرنا لكم هنا خطبة مكتوبة ومنقحة ومشكولة -بما تطلَّب-؛ بها دروس وعبر في التضحية؛ مُدعَّمة بآيات من كتاب الله -عز جل- وبأحاديث من سُنَّة الحبيب المصطفى محمد ﷺ.
هنا يكون ملتقى الخطباء بيننا أسبوعيًا لتقديم خطبة الجمعة، والخُطَب المحفليَّة أيضًا. هنا يكون اللقاء للتحضير ثم هناك على المنبر للإلقاء منكُم والتّلقي مِنا. فأظهِروا لنا منكُم كُل طيِّب.
مقدمة الخطبة
الحمد لله نحمده، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، وتركنا على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يبتغيها إلا سالك ولا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم فصلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد إخوة الإسلام، فأوصيكم ونفسي المخطئة المذنبة بتقوى الله في السِّر والعَلَن، وأحثكم على طاعته وأنهاكم عن معصيته.
يقول الله -تبارك وتعالى- في محكم تنزيله في الآية ٧٢ من سورة الأنفال (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض).
أيها الأحِبة، نحن في بداية عام هجري جديد، نستحضر فيه حدثًا عظيمًا في سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي حياةِ وتاريخ أُمتنا، هو حَدَث الهجرة، الذي بعنوانه كان التأريخ الإسلامي / التأريخ الهجري.
حَدَثُ الهجرة الذي شكل في حياة المسلمين مفصلا ومحورا وفيه من العظات والعبر ما ينبغي أمامه أن يتعلم الإنسان المسلم مفاهيم التضحية ومعانيها لأجل عقيدته ولأجل دينه ولأجل مبادئه. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بَيَّن أن أحَبّ البقاع إليه مكة، حيث قال ﷺ (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
ولكن عندما تكون التضحية لأجل أن تستمر الرسالة، وتبقى العقيدة، وتبقى المبادئ؛ ضحَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهاجر؛ ترك مكة إلى المدينة المنورة.
هاجر ﷺ ليُعَلِّم أمته أنه لا بد من أخذ القرار في الوقت المناسب، القرار الفعلي العملي.
من مشكلات أمتنا اليوم أنها كثُر فيها التنظير وقل فيها القرار الفعلي.
حياة النبي عليه الصلاة والسلام كانت كلها قرارات فعلية، تطبيقية، يظهر أثرها في مجريات الأحداث والحياة.
وللأسف، فإن كثيرًا مما تعيشه أمتنا اليوم هو قضايا نظرية، وكلام، وخطب رنانة، ومؤتمرات؛ أما القرارات الفعلية التي يتغير فيها الإنسان مجرى الأحداث ويحقق فيها شيئا على الأرض، فأُمتنا اليوم مُقصِّرة.
ولذلك؛ لا تجِد لها مكانًا ولا مساحة بين الأمم، وبين هذه الأعاصير المتلاطمة، والأمواج المتكدسة في مجريات الأحداث العصرية التي تلم بساحة الدنيا.
الهجرة، هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام كانت قضية أساسية عَلَّم من خلالها النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته أن التضحية هي العنوان الأساسي، لتكون الكرامة، وتكون العِزَّة، ويكون التمكين في الأرض. فبلا تضحية لن يجد المسلم له مكان على رُقعة الأحداث.
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر الصحابة رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم، ولا يرون أمامهم إلا رضا الله -عز وجل-. حيث يثول رب العِزَّة -سبحانه- في الآية ١٠٠ من سورة النساء (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة).
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمام عينيه، والآيات تتنزَّل تُبشِّرهُ بفتح مكة.
عجيب! يهاجر الإنسان، يترك أرضه وداره وبيئته، والبِشارات تأتي بفتح مكة؛ ففي الآية ٨٥ من سورة القصص يقول الله -تعالى- (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد).. لرادك إلى معاد، لرادك إلى إلى مكة وإلى الأرض التي تحبها.
وهكذا شأن الله -عز وجل- في معاملة عباده وخلقه، أنهم إذا ضحَّوا بشرهم بالفتح بعد التضحية، في كل شيء؛ سواء على الصعيد الشخصي، إن ضحَّيْت يكرمك الله -عز وجل- بأبوابٍ تفتح لك، إن بذلت يكرمك الله -عز وجل- بأبواب من الرزق تفتح لك، إن تنازلت وسامحت يكرمك الله -عز وجل- بأبوابٍ من التيسير بين الخلق وزرع محبتك في قلوب العباد والخلق، إن أعطيت يفتح الله -تبارك وتعالى- لك أبواب العطاء، إن ثَبتَّ على المبدأ يفتح الله -تبارك وتعالى- لك سبعين بابًا من أبواب التمكين والهيبة والعزة، لأنك ثابتٌ على مبدأك؛ هذا من سنن الله -عز وجل- في معاملة خلقه.
تُضحي لأجل الدين، يُعطيك الله -عز وجل- التمكين في دينك؛ تُضحي لأجل أهلك وأولادك، يبارك الله -عز وجل- لك في أهلك وأولادك؛ تُضحي في تركِ محبوبات النفس المحرمة، يفتح الله لك -تبارك وتعالى- أبوابًا من محبوبات النفس بالحلال. هذا من سنن الله -عز وجل- في معاملة خلقه.
وهنا نستحضر حديث رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، أمام الحديث والكلام عن الهجرة، نستحضر هذا المعنى العريض الذي فتحه لنا نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يقول (المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمهاجر …) أنظروا كيف فتح لنا عليه الصلاة والسلام مهيعًا وبابًا عريضا! قال (والمهاجر من هجر ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه).
بالأمس هاجر الصحابة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتركوا الوطن والأرض المحبوبة لأجلِ الثبات على المبدأ، وأنت أيها المسلم في كل لحظة تهجر ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه مِما حرَّم ومنع، فأنت مهاجرٌ بهذا المعنى الواسع (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
ينبغي أن تكون حياتنا كلها هجرة؛ نهجُر ما حرَّم الله -عز وجل-، نهجُر ما يغضب الله تبارك تعالى، نهجر ما فيه شك وريبة، نهجر كل ما فيه علامات استفهام تشكك بالتزامِنا وبديننا.
يقول عليه الصلاة والسلام (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
أترك ما فيه شُبهة، ما فيه شيء محرم، هاجِر في فِكرك، في قلبك، في طاعتك، في إيمانك.
هاجر في صلاتك، أطِل في صلاتك أيها المؤمن لتكون بمزيد من الخشوع.
أنت مهاجر بهذا المعنى.
فإذا طوَّرت نفسك من صلاة كلها غفلات وشرود ذهنٍ واشتغال قلبٍ بغير الله -عز وجل-، إلى صلاةٍ هاجرت إليها، فيها الخشوع والحضور مع الله -تبارك وتعالى-، والتعظيم لله -سبحانه وتعالى-.
نهجُر أنماط حياتنا التي اعتدنا عليها من الصباح إلى المساء، تحكمنا أنماط عيشٍ لا نستطيع أن نتخلص منها؛ نتأثَّر بالإعلام، بالأفلام والمسلسلات، ونتأثَّر بما يتكلم ويتحدث به الناس، نتأثَّر بأشياء كثيرة.
ولكن المهاجر من يترك هذا كله، ويهجر نمَط حياةٍ صارة هو مُكَبَّلٌ له، إلى نَمط حياةٍ جديد يكون فيه إلى الله أقرب، إلى القرآن أقرب، إلى فعل الخيرات أقرب، إلى صلة الأرحام أقرب، وهكذا..
لأن الإيمان سره في تجدده دائِمًا.
وكما يقول علماء الاقتصاد، المال: هو ما أُعِدّ للنماء، ينبغي أن ينمو؛ فإذا كان المال ثابتا لا ينمو ولا يُستثمر فسيضيع.
والإيمانُ من بابٍ أولى، مُعَدٌ للنماء؛ تُجدد إيمانك دائِمًا في أنك ترتحل إلى مرتبةٍ أعلى بالطاعة والعبادة والإقبال على الله -عز وجل-.
الفتاة التي تتحجب وتلتزم وتترك كل المؤثرات وكل المُشككات، وكل أصحاب الوهن؛ سواء في الفتاوى الواهِنة الباطِلة، أو في نمط المجتمع؛ تتحجب هذه الفتاة وتقبل على الله -عز وجل-، هذه مهاجرة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
الذي يترك المعاملات المالية المحرمة، ويقبل على معاملات مالية شرعية؛ هذا مُهاجرٌ في هذا المعنى الذي وسَّعهُ رسولنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
نحتاج في هذه المناسبة التي تُحيي فينا استحضار هجرة رسولنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ أن نتذكر أيضًا تلك البيئة من الأنصار في المدينة المنورة، الذين استقبلوا النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، واستقبلوا الصحابة المهاجرين، وفتحوا لهم القلوب والبيوت وقاسموهم لقمة الحياة والعيش.
قال -تعالى- في الآية ٩ من سورة الحشر (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
نزلت الآية في حقِّ أهل المدينة الذين آثروا من جاءهم من المهاجرين، وفتحوا لهم الأبواب، وفتحوا لهم القلوب؛ أن تكون قلوبنا واسعة وأن تكون قلوبنا فيها الرحمة على كل من يقصد خدمة المسلم لأخيه المسلم، على كل من يقصد إيواء وإسعاد المسلمين.
ولذلك قالوا في العناوين الأساسية في القيم والمبادئ (إغاثة الملهوف). واليوم نجد كثيرًا من الناس ضاق بهم الحال ذرعًا في فكرهم الضيق وهم يجدون إخوةً قد فروا بحياتهم وأعراضهم وأموالهم ودينهم من إخواننا من بعض الدول العربية والإسلامية؛ ويتعاملون معهم معاملة عنصرية خطيرة، وهذا ينافي مبادئ الدين الحنيف، وينافي مبادئ الإسلام.
فبالأمس أهل المدينة استقبلوا المهاجرين وفتحوا لهم البيوت؛ فمن جاءك فارًّا وهاربًا بدينه وعرضه وماله، ينبغي عليك أن تتعامل معه بالرحمة، وأن تتعامل معه بالحب، وأنت تتعامل معه بالأخوة، التي علمنا إياها ديننا.
أيها المسلمون، في هذا العام الهجري الجديد الذي نُقبِل فيه على الله -عز وجل-، فلنُرِي الله -تبارك وتعالى- في أنفسنا التوبة الصادقة والعمل الصالح؛ وليكُن الزمان حُجَّةً لنا وفرصةً لنُجَدد علاقتنا مع الله -عز وجل-، فكل يومٍ يعطيك إياه رب العالمين هو مناسبة وفرصة لتعود إنسانًا طائِعًا مستقيمًا منيبًا مُقبلا على الله -عز وجل-.
وربنا -تبارك وتعالى- يقول في الآية ١٣ من سورة الشورى (يهدي إليه من ينيب).
والمُنِيب هو الذي يرجع إلى الله -عز وجل-.
والزمن بالنسبة لنا نِعمة، فلا ينبغي أن يتحول بالبُعد عن الله إلى نِقمة.
تقلُّب الأيام والشهور والسنوات هي رحمة ونعمة من الله -تبارك وتعالى-، ربنا -عز وجل- أقسم بالعصر (والعصر ﴿١﴾ إن الإنسان لفي خسر ﴿٢﴾ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴿٣﴾).
فأقسم بالعصر -بالزمن-، بما فيه من أهمية.
ها هو عامٌ هجريٌ جديد يقبل علينا، فلنغير حياتنا إلى الأحسن، ولنصِل الأرحام، وأن نتُب بين يدي الله -عز وجل-، ولنُنَظِّم جدول حياتنا ولنرتب الأولويات، ونجعل طاعة الله -تبارك وتعالى- في رأس هرم أولوياتنا؛ عندها نسعد في الدنيا ونستشرف – بإذن الله- جنات عرضها السماوات والأرض في الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ نحمده الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله.
عباد الله، اتقوا الله فيما أمر وانتهوا عمّا نهى عنه وزجر، واعلموا أن ربكم قد صلى على نبيكم قديمًا، قال تعالى -ولم يزل آمِرًا حكيما- تعظيما لقدر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتكريما، (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). اللهم صَلِّ على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا.
(واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما).
الدعاء
- اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
- اللهم تب علينا توبة نصوحا.
- اللهم أنزل هدايتك علينا وعلى أهل بيتنا وأولادنا وذرياتنا وأرحامنا وإخواننا وأخواتنا يا رب العالمين.
- اللهم يا غياث المستغيثين، ويا أمان الخائفين، يا من يجيب دعوة المضطرين، نسألك في هذه الساعة أن تتوب علينا توبة نصوحا.
- اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته ولا كربا إلا نفسته، ولا مريضًا إلا شفيته وعافيته يا رب العالمين.
- اللهم نسألك حسن الختام، والوفاة على الإيمان، ومرافقه خير الأنام، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، في الجنة دار الخلد دار السلام.
- اللهم فَرِّج عن المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها.
- اللهم فَرِّج عن المسلمين في فلسطين، اللهم فرج عن المسلمين في سوريا يا رب العالمين.
- اللهم من أراد بالمسلمين خيرًا فوفِّقه إلى كل خير، ومن أراد بهم شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر يا جبار.
- اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أقِم الصلاة.
هذه كانت خطبة عن الهجرة النبوية من أجل الأئمة والخطباء في المساجد في كُل أرجاء الدول العربية؛ كـ: السودان، سوريا، الإمارات، تونس، عمان، الكويت، البحرين، ليبيا، مصر، السعودية، العراق، المغرب، قطر، الأردن، اليمن، لبنان، موريتانيا، الجزائر، فلسطين.. وكل الدول الإسلامية كذلك.
لقد خَطَب كثيرٌ من الفقهاء والعلماء وقدّموا كثير دروس وعبر من هذه الحادثة العظيمة في تاريخنا الإسلامي؛ ومنهم: الشيخ محمد حسان، العريفي؛ وغيرهما. أما خطبتنا هنا فقد ألقاها فضيلة الشيخ أمين الكردي -أمين الفتوى في الجمهوريّة اللبنانيّة- فجزاهُ الله خيرًا.